الوضع السورى ومآلات المشهد الحالى

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 25 أغسطس 2019 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

تطوّر الوضع المعقد المشرذم فى سوريا كثيرا خاصّة منذ 2017. ذلك بعد مفترق الطرق الحاسم فى حلب، عاصمة البلاد الثانية، وبعد إنهاء هيمنة الدولة الإسلاميّة على مناطقٍ ومدن. وقد أضحى المشهد أكثر وضوحا مع بروز مناطق السيطرة الثلاث، المدعومة كلّ منها من أطرافٍ دوليّة مهيمنة. ما يعنى أنّ الدول المتصارعة على سوريا ربّما قد اختارت السير فى توجّهٍ ما لإنهاء الصراع. توجّهٌ من الصعب قراءته من خلال تصريحات هذا و«تغريدات» ذاك.
مشهد اليوم بمناطقه الثلاث لا يزال غير قابل للاستمرارية ولا يؤسس لحل سياسى يجمع بين هذه المناطق ويحافظ بالوقت نفسه على «سيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية»، كما فى نصوص قرارات مجلس الأمن. بالتالى يُمكِن استمرار التطورات الميدانية العسكرية القائمة لفترة أطول مهما كانت الطروحات السياسية الإعلامية المُعلَنة.
هذا الانفصام بين ما هو سياسى إعلامى وما هو عسكرى ليس جديدا بل شكل سمة المرحلة السابقة بشكل جلى. ووجد دلالته فى تزامن أهم التطورات الميدانية مع جولات جنيف التفاوضية دون رابط حقيقى بينهما.
***
منطقة الهيمنة التركيّة فى إدلب وشمال حلب غير قابلة للاستمرار وهى أصلا موزّعة إلى منطقتين ومنطقَين. الأولى فى شمال حلب تخضع للإدارة التركيّة المباشرة التى تسهر فيها على قوت الناس كما على الخدمات العامّة. والأخرى تهيمن عليها عسكريّا فتح الشام (النصرة سابقا) وفصائل أخرى وتديرها صوريّا «حكومة إنقاذ»، لكنّ سكّانها يعيشون من معونات الدول الغربيّة ومؤسّساتها الإغاثيّة. فى الواقع، لا علاقة للمعارضة السياسيّة المتمثلة فى «الائتلاف» و«هيئة التفاوض» بأى من القسمين سوى من حيث الخطاب السياسيّ بأنّها «مناطق محرّرة» ومعاقل «للثورة».
كلّ المشاريع لإضفاء الشرعيّة الدوليّة على «فتح الشام» فشِلَت. وبالتالى لا يُمكن «للمجتمع الدولى» أن يقبل استمرار الوضع فى إدلب كأساس لحلّ سياسيّ مهما كان نوعه. ومنه يبدو أن هناك توافقا دوليا على إنهاء الوضع فيها عسكريّا. ترك عمليّا لمن يستطيع أن يدفع ثمن ذلك بشريّا وإعلاميّا ويتحمّل تبعات قتال تنظيمات جهاديّة والتنديد الإعلاميّ بالضحايا المدنيين فى حربٍ على مدنٍ وقرى مأهولة. ولا يشكّل الدعم بالعتاد الذى يصِل للفصائل التى تقاتل فى إدلب والذى يبقى محدودا أو تنديد بعض الدول بآلام الضحايا سوى مزايدات تستهدف الأطراف التى تُرِكَت لها مهمّة إنهاء الوضع.
بالطبع لن تقوم تركيا بهذه المهمّة، حتى بهدف جر إدلب إلى وضع شمال حلب، لأن ذلك سيكون مُكلِفا بشريّا بالنسبة لجيشها ولرأيها العام، كما ستخسر الرصيد المعنوى الذى زرعته لدى فئة من السوريين أنها «حامية سنّة سوريا». هذا الرصيد ضروريّ لها لاستمرار نفوذها فى المراحل القادمة. خاصّة وأنّ هذا النفوذ لا يتوجّه نحو الاستقرار حتّى فى شمال حلب مع ما يحدُث فى عفرين وحولها ومع التضييق على اللاجئين السوريين فى تركيا.
أمّا منطقة هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، فوضعها وإن بدا أفضل من ناحية «الإدارة الذاتية» ومن ناحية الزخم الإعلاميّ الغربيّ أنّ «قسد» هى وحدها من دفع ثمن القضاء على داعش، فوضعها أيضا غير قابلٍ للاستمرار. ذلك أنّ مجتمع الجزيرة السوريّة متنوّع ومتواصل بشكلٍ عميق مع بقيّة المدن السوريّة ومن الصعب تصوّر صيغة مستدامة للإدارة تشمل الرقّة والطبقة ودير الزور مع القامشلى والدرباسيّة والمالكيّة دون بقية سوريا. هذا بالإضافة إلى حساسيّة دول المنطقة تجاه التوجّهات القوميّة الكرديّة وكراهية السلطات التركيّة الشديدة حيال حزب الاتحاد الديمقراطى (بى يى دي) وحزب العمّال الكردستانى. كما لا يمكن تصوّر أيّ معنى حقيقيّ «للمنطقة الآمنة» المزمَع إقامتها على حدود تركيا مع الجزيرة إذ إنّها مهما ضاق عمقها ستُخضِع المدن الأساسيّة ذات التواجد الكرديّ الكبير.. للهيمنة التركيّة. فى حين ليس لتركيا رصيدٌ إيجابيّ لدى أكراد سوريا.
بالتالى تبقى هذه المنطقة مرشّحة لتفاوض سياسيّ سوريّ ــ سوريّ، بحكم الواقع، ومن خلفه روسيّ ــ أمريكيّ مستتِر أكثر من إدلب وشمال حلب.
مقابل ذلك كلّه، توسّعت بشكلٍ كبير المنطقة التى عادت لسيطرة الدولة السوريّة وتهيمن عليها السلطة القائمة فى دمشق وحلفاؤها. هنا أيضا هناك عوامل عدم استمراريّة لما تعانيه من ظروفٍ معيشيّة صعبة نتيجة الحصار الدوليّ والانفلات الأمنيّ وتسلّط الميليشيات وتجّار الحرب والأجهزة. إلا أن المعركة التى يتمّ خوضها بكلفة بشريّة كبيرة تغطّى حاليّا على التناقضات القائمة التى لا بد أن تبرز يوم تصل الأمور وتوجّهات الدول المتصارعة إلى مرحلةٍ لن تكون فيها الحرب هى الأساس بل السياسة والمجتمع والاقتصاد.
والدول الداعمة الحالية، أى روسيا وإيران، تعمل لتثبيت وجودها فى هذه المنطقة تحضيرا للمرحلة القادمة. إلاّ أنّ معيار الاستدامة فى مرحلة السياسة سيكون القدرة على صنع السلم الأهليّ وإعادة النازحين واللاجئين وإعادة إطلاق العجلة الاقتصاديّة لتأمين عيش المواطنين الذين أنهكتهم الحرب. والانتصار العسكريّ لا يعنى بالضرورة انتصارا سياسيّا. ولا يُمكن إدارة السلام بذات الطريقة التى أُديرَت بها الحرب.
***
لقد دفع السوريون على مختلف توجهاتهم كلفة إنسانية ضخمة فى هذه الحرب التى كان يمكن تفاديها مهما كانت المؤامرات. وتبدد الكثير من آمالهم فى إنهاء الاستبداد والحصول على شيءٍ من الحريّة والكرامة. أغلبهم لا يريدون سوى أن تنتهى هذه الحرب ويتوقّف تجنيد أبنائهم والتضحية بهم فى هذه المحرقة. والكثيرون يريدون الهجرة إلى أيّ مكانٍ يستطيعون أن يكسبوا فيه رزقهم وينعمون بالهدوء.
رغم ذلك ما زال هناك، للأسف، على هذا الطرف أو ذاك من يعتمد خطاب الإقصاء. موالون يصفون جميع من عارضوا بالإرهابيين، ومعارضون يصفون الموالين بالطائفيين الصفويين ويطلقون المهاترات ضدّ الأكراد، وأكرادٌ يعتبرون أنّ كلّ أبناء بلدهم ضدّهم. وجميع هؤلاء يردّدون أنّهم سوريّون ويعملون من أجل كلّ سوريا.
فى المحصّلة، لا يستفيد من هذا الخطاب سوى من يعتمد سياسة «فرّق تسُد»، كان سلطة قائمة أو مجموعات متشدّدة أو قوى خارجيّة. فى حين أنّ ما يؤسّس للسلم الأهليّ والمستقبل هو الدعوة إلى «كلمةٍ سواء» بين الجميع. لم يختر أحدٌ من السوريين لا دينه ولا مذهبه ولا قوميّته ولا جذوره. إلاّ أنّ ما يجمعهم هو هذه الأرض التى شبِعَت من دمائهم.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
الاقتباس

لقد دفع السوريون على مختلف توجهاتهم كلفة إنسانية ضخمة فى هذه الحرب التى كان يمكن تفاديها مهما كانت المؤامرات. وتبدد الكثير من آمالهم فى إنهاء الاستبداد والحصول على شيءٍ من الحريّة والكرامة. أغلبهم لا يريدون سوى أن تنتهى هذه الحرب ويتوقّف تجنيد أبنائهم والتضحية بهم فى هذه المحرقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved