تجديد الهوية الوطنية الفلسطينية: الخيارات مقابل الوقائع

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 25 سبتمبر 2017 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة كارنيغى للسلام الدولى دراسة معمقة للباحثين بيرى كاماك، ناتان براون ومروان المعشر حول تجديد الهوية الوطنية الفلسطينية والخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين ما بين خيار حل الدولتين الذى لم يعد مقبولا من جانب الفلسطينيين أو المقاومة المسلحة التى تعد الأسلوب الأكثر فعالية لتعزيز الروح الوطنية الفلسطينية.

بداية ذكر الباحثون أنه وعلى الرغم من انقضاء ٥٠ سنة على الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، يبدو أن الحركة الوطنية الفلسطينية تقف على مفترق طرق. فقد تعثرت الجهود المتكررة للتفاوض حول حل الدولتين، كما أن الوسائل التقليدية للحركة الوطنية الفلسطينية ــ وهى منظمة التحرير الفلسطينى، وفتح، والسلطة الفلسطينية منذ العام 1994ــ تواجه أزمات ثقة. وفيما يرجح أن يؤدى المسار الحالى إلى استمرار الاحتلال، والتوسع فى الاستيطان، والانقسام الداخلى، إلا أن البدائل الاستراتيجية قد تقوض إنجازات دبلوماسية ومؤسسية فلسطينية، من دون توافر ضمانات لنجاحها. والمطلوب استراتيجية متماسكة، وظهور جيل جديد من القادة القادرين على رأب الصدوع السياسية وضخ حياة جديدة فى المؤسسات الفلسطينية.

ففى السنوات الأولى بعد «النكسة» (التى يطلق عليها الإسرائيليون «حرب الأيام الست» عام 1967)، كانت الصحوة الوطنية الفلسطينية أمرا بعيد المنال. وتولت إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 جامعة الدول العربية التى كان يسيطر عليها آنذاك الرئيس المصرى جمال عبدالناصر، لاحتواء الهوية الوطنية الفلسطينية، جزئيا على الأقل. وبعد جيل واحد استوعبت القومية العربية الحركة الوطنية الفلسطينية، وسيطرت فيه مصر على غزة والأردن على الضفة الغربية والقدس الشرقية، ثم وجد الفلسطينيون فى هذه الأراضى أنفسهم، فجأة، فى ظل الاحتلال الإسرائيلى عام 1967.

ولكن بعد ظهور ياسر عرفات وقيادة مستقلة لحركة فتح بعد عام 1967، حظى الفلسطينيون بمساندة دولية مهمة وحققوا بعض الخطوات باتجاه إقامة الدولة والتحرير. وأخذت أعمال حرب العصابات الجريئة التى قاموا بهاــ ولم تقتصر غالبا على أهداف مدنية إسرائيلية (بل غير إسرائيلية) ــ تستأثر باهتمام عالمى، وأدى ذلك بصورة لا مفر منها إلى إلصاق صفة الإرهاب بحركة التحرر الوطنى. إلا أن ميل الفلسطينيين إلى استخدام هذا العنف لم يكن يستثنى الدبلوماسية ــ التى استهدفت أول الأمر البعد الإقليمى ثم البعد العالمى ــ كما أنه لم يحل دون تطبيق البراغماتية السياسية، ولا سيما خلال ثمانينيات القرن الماضى ومن بعدها.

أضاف الباحثون أنه وفيما كانت وجهات النظر الفلسطينية تتبلور باتجاه تكريس حل الدولتين فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، كان اللاعبون الدوليون يحددون، من خلال تجديدات تحديثات ومراجعات متتالية، الإطار الذى يمكن فى إطاره تحقيق التطلعات الفلسطينية. وهناك ثلاثة أمثلة فى هذه الناحية: قرار مجلس الأمن الدولى الرقم 242 فى نوفمبر 1967، واتفاقيات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر عام 1978 ثم فى عام 2003، خريطة الطريق الرباعية لتحقيق السلام ــ التى لم يكن للفلسطينيين دور فى صياغة أى منها وقد طرح قرار مجلس الأمن الدولى 242 أول الأمر مفهوم «الأرض مقابل السلام» الذى أصبح هو الأساس للاتفاقيات التى وقعت بين إسرائيل ومصر (1979) والأردن (1994) واتفاقيات أوسلو. وتضمنت اتفاقيات كامب ديفيد الخطوط العريضة لسلطة تتمتع بالحكم الذاتى فى الضفة الغربية وغزة. وقد رفضتها منظمة التحرير الفلسطينية ولم تنفذ على الإطلاق، غير أنها غدت بمثابة نموذج لاتفاقيات أوسلو بعد خمسة عشر عاما. أما خارطة الطريق الرباعية، التى وضعت مسودتها فى عهد الرئيس الأميركى جورج دبليو بوش وأطلقتها اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبى، والأمم المتحدة) فى إبريل 2003، فقد كانت خطة تقوم على أساس الأداء لإنهاء الصراع، وقد غدت هى الأساس للجهود التفاوضية اللاحقة.

كان من الأهداف الأساسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة فى فترة الزعزعة التى سبقت أوسلو، «المحافظة على استقلالية القرار الفلسطينى». وفى حين حافظ الفلسطينيون دائما على حرية اتخاذ القرار، فإنهم حاولوا، عموما، تحاشى الانسلاخ عن الدول العربية. وقد تزامنت فترات التقدم فى المشروع الفلسطينى على العموم مع فترات الاستقلال، بينما فتحت فترات الركود أو الانحسار المجال للتدخل الخارجى.

فى هذه الأثناء، وقفت الولايات المتحدة واللاعبون الدوليون الآخرون ضد الجهود الأحادية الفلسطينية للعمل خارج إطار المفاوضات الثنائية، مثل الانضمام إلى المنظمات الدولية والسعى إلى تحقيق المصالحة بين فتح وحماس وعلى الرغم من هذه المعارضة، فإن دولة فلسطين، على الرغم من افتقارها إلى الحدود أو السيادة، قد حظيت باعتراف دبلوماسى رمزى من جانب ما يزيد على 130 دولة تمثل نحو 80 بالمائة من سكان العالم؛ كما اكتسبت صفة عضو مراقب فى الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى. غير أن الاعتراف الدبلوماسى، بحد ذاته، لم يحقق إلا أقل القليل من الفوائد الواقعية الملموسة.

***

البدائل السياسية

خلال العقود الأخيرة، بدأ تنظيم المؤسسات الوطنية الفلسطينية على افتراض أنها هى التى ستتولى فى المستقبل زمام الأمور فى دولة ذات سيادة. ومع تزايد شكوك الفلسطينيين بحل الدولتين، برزت بدائل أخرى كمسارات معقولة للمضى قدما إلى الأمام. وأبدت كل منها دلائل على تبلور هذا التيار فى أوساط الأطراف الفاعلة فى القواعد الشعبية، غير أن أيا منها لا يتمتع، ومن المرجح أن لا يتمتع، بالدعم من جانب القيادة السياسية التى تتخذ من رام الله مقرا لها؛ وهذه البدائل هى؛ ثنائية القومية ولكن ينبغى على المنادين بها أن يبينوا على نحو مفصل استراتيجية قابلة للحياة لبلورة هذه الرؤية. ومع ذلك، فبالنظر إلى الأغلبية الديمجرافية الفلسطينية الآخذة بالنمو بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، فإن خيارات ثنائية القومية قد تزداد جاذبية فى السنوات المقبلة.

وهناك أيضا المقاربات القائمة على الحقوق؛ ثمة مؤشرات على أن المقاربات التى تستهدف تأمين قدر أكبر من الحماية القانونية للحقوق الإنسانية والمدنية الفلسطينية قد ازدادت قوة؛ وهى تشمل تدابير وتكتيكات متنوعة ــ تتراوح بين حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، والوثائق القانونية الدولية، والمقاومة غير العنيفة.

المقاومة المسلحة. إن المقاومة المسلحة، التى تعتبرها إسرائيل مرادفا للإرهاب، هى المقاربة الأكثر راديكالية. وقد خلفت الانتفاضة الثانية آلافا من الضحايا وكانت كارثية بالنسبة للتطلعات الفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة دلائل على أن الروح النضالية تزداد عنفوانا، وأن الخمود السياسى الفلسطينى قد خلق فراغا يملأه بالعنف أشخاص أو عناصر هامشية خابت آمالهم.

نحو تجديد مؤسسى

إن الهوية السياسية والثقافية الفلسطينية والمثال الأعلى المدرك للوحدة الفلسطينية ما زالت أصداؤهما على ما يبدو تتردد بقوة، غير أن الشعب الفلسطينى يعانى التشتت السياسى والجغرافى على حد سواء، الأمر الذى يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى التجديد المؤسسى.
وتواجه الفصائل الفلسطينية، تحديات جسيمة. فقد فقدت فتح إحساسها التاريخى برسالتها بعد عقود من ممارسة السلطة، وهى تؤدى وظيفتها الآن كشبكة للرعاية لا كحزب سياسى. وتواجه حماس مشاكل أعمق من ذلك هى: غياب الاستراتيجية، وضعفها فى الضفة الغربية وعجزها عن إدارة دفة الحكم فى غزة، وفشلها فى طرح خيار حقيقى للمقاومة، ووضعها الحالى بوصفها منبوذة على الصعيد الدولى.

لقد وافقت فتح وحماس كلتاهما، وبدعم من الغرب، على تقسيم فعلى لفلسطين، ما أدى إلى تخندق كل منهما فى الأراضى التى يقيم فيها. وهناك تيار قوى فى أوساط الفلسطينيين يرى أن هذه المنافسة تفرق الشعب الفلسطينى، كما أنها أسهمت فى تداعى مؤسساته.
ومع فقدان الفصائل الفلسطينية لقدرتها على اجتذاب الأجيال الجديدة، فإن التيارات التحتية التى كانت قد أدت إلى ولادتها أصلا ما زال لها حضور مؤثر فى المجتمع الفلسطينى. كما أن البنى النظامية التى تجسد الهوية الوطنية الفلسطينية آخذة بالتحلل، بيد أن الهوية نفسها ما زالت ثابتة الأركان.

يضاف إلى ذلك أن ثمة مؤشرات على العنفوان والروح الدينامية على المستويات الوطنية الفرعية. فالنقابات، والجماعات الطلابية، والأطراف الفاعلة الأخرى فى المجتمع المدنى، تمارس نشاطا سياسيا داخليا نابضا بالحياة وتتشابك مع القادة الأكثر شبابا ممن يستطيعون إعادة الروح إلى السياسات الفلسطينية فيما توشك السلطة على الانتقال من جيل إلى جيل.

***

ختاما يذكر الباحثون أن أى محاولة للتكهن بما ستكون عليه الاتجاهات الحالية فى المستقبل قد تفضى إلى التشاؤم واليأس. غير أن هذه الاتجاهات قد لا تتخذ المسار نفسه الذى سلكته خلال العقد الماضى. وصحيح أن الهياكل النظامية التى تحتضن الهوية الوطنية الفلسطينية آخذة بالانهيار، غير أن الهوية نفسها لما زالت قوية بين الفلسطينيين. وقد فقدت الفصائل الفلسطينية معنى الرسالة التى تحملها مثلما فقدت القدرة على اجتذاب الأجيال الشابة. بيد أن التيارات التحتية التى أدت إلى نشوئها لما زالت تمارس حضورا قويا فى المجتمع الفلسطينى. وفيما يستعد الجيل المقبل المقبل فى الحركة الوطنية الفلسطينية لتولى زمام الأمور، هل ستقوم القيادة الجديدة بضخ جرعة جديدة من العنفوان والحيوية فى المؤسسات التى أصابها الضمور؟ أليس من الممكن أن تؤدى صحوة الإرادة الشعبية لتحقيق الوحدة الفلسطينية إلى إرغام الفصائل على معالجة ما يفصل بينها من فجوات جغرافية وسياسية؟ أليس من الممكن أن تسفر أزمة سياسية ــ أو تجدد أخطر من ذلك للنزاع مع إسرائيل ــ عن احتمال التجديد المؤسسى الذى لم تظهر بوادره حتى الآن؟ ألن تستطيع مقاربة «من الخارج» للنزاع تكون الدول العربية فيها مشاركة فى المفاوضات، أن تنفح نسمة حياة فى عملية السلام التى دخلت مرحلة الاحتضار؟ هل يستطيع جيل جديد من القيادات الطلابية وناشطى المجتمع المدنى وآخرين أن يعيد العنفوان إلى الحركة الوطنية الفلسطينية؟

النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved