كلمات متقاطعة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 25 سبتمبر 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

على المقهى القديم جلس كهل ممسكًا بين يديه بجريدة؛ تصفحها ومر بالعناوين سريعًا ثم انتقل إلى صفحة بدت لديه أثيرة؛ إذ طوى الأوراق ليستأثر بها ويحدق فيها.

***

في أعقاب نظرة سريعة لكنها فاحصة مدققة، التقط من على المنضدة المعدنية الصغيرة قلمًا وشرع في الكتابة؛ كلمة تلو أخرى، واحدة معتدلة وأخرى معكوسة، ضد ومرادف، لقب ملغي وعاصمة لبلد أوروبي واسم لممثلة راحلة ومطرب شهير. في دقائق معدودات كانت الكلمات المتقاطعة قد اكتملت إلا قليلًا وصارت المربعات البيضاء الخاوية مشغولة بالحبر.

***

مثلت الكلمات المتقاطعة التي تحويها أغلب الصحف المعروفة تسلية ممتعة لأجيال عديدة. هدف رئيس يتم الاحتفاظ من أجله بالجريدة، وإن قرأها أهل البيت وانتهوا من الأخبار التي تحملها؛ فالمربع المغري لا بد وأن يمتلئ وأن يجد من يظلله ويتفاعل معه.

***

في السنوات الأخيرة تحول الاهتمام إلى ألعاب مختلفة ومتنوعة؛ فظهرت إلى جانب الكلمات المتقاطعة مربعات السودوكو التي تقدم أحجية معتمدة على استكمال الأرقام الناقصة؛ طبقًا لقواعد محددة. تراجع على ما يبدو عدد المهتمين بالكلمات المتقاطعة لصالح المشغوفين بالأعداد، لكن الأولى صمدت للتحدي ولم تندثر، إنما احتفظت بموقعها في صفحة التسالي بكبرى الصحف والمجلات أيضًا؛ صغيرة محدودة في بعض الأمكنة، ضخمة غزيرة المعلومات في أخرى.

***

لا يزال حل الكلمات المتقاطعة بمنزلة تقليد عريق لشريحة عمرية بعينها، لا يمكن التخلي عنه أو إهماله، ولا يزال بعض الموظفين في المصالح الحكومية يقضون الوقت معها بهمة ونشاط، وكأنها واجب يتعين أداؤه بلا تراخي أو تقاعس. شهدت معارك عائلية لدى بعض المعارف والأصدقاء قامت بسبب ضياع الجريدة أو التخلص منها قبل ملئ المربعات، أو إذا جرؤ من ليس له الحق على أن يفسد المتعة ويضع بعض الحروف فيها.

***

يدرك من قضوا من عمرهم سنوات يبتاعون صحفًا بعينها وعمدوا إلى حل كلماتها المتقاطعة بانتظام ووصلوا حد الاحتراف؛ أن المفردات تتكرر، وأن الصعوبة التي يجدها مبتدئ تزول مع التمرس والتدريب وأن مترادفات تبدو صعبة عصية على البال تصبح يسيرة ما اكتشفت وأعيدت مرة واثنتان. العارفون بمواطن التكرار حفظوا أن مرادف البحر هو ”يم“، وعرفوا أن حرف الندبة هو ”وا“ وأن ماج واضطرب يقابلها عند واضع الكلمات فعل ”أج“، وكثيرهم يحرز درجة النجاح الكاملة في بضع دقائق لا أكثر.

***

تتشابه الكلمات المتقاطعة وتفاصيل حيواتنا إلى حد كبير، كثيرها غامض ناقص ومخفي، يحتاج إلى بعض الوقت لاستيعابه، وبعض التركيز لسبر غوره، وكثير من الصبر والإصرار على إيجاد الإجابة الصحيحة التي تجعل المشهد الكلي منضبطًا لا خلل فيه. تلوح المسألة على قدر من التعقيد لكنها ما إن تبدأ في التكامل حتى تغدو واضحة سهلة.

***

تركتها لسنوات طوال رغم حرصي في السابق على مطالعتها في جريدة يومية توصف دومًا بالعريقة، ثم عدت إليها مؤخرًا صدفة لأجدها بمفرداتها وحروفها ثابتة لم تتغير، المترادفات كما هي والمعلومات المحجوبة على حالها لا تواكب جديدًا ولا تستقي مما تبدل شيئًا؛ وكأن الزمن قد تجمد عندها وقطع الناس شوطًا فسبقوها وتجاوزوها.

***

على كل حال؛ تحول الباحثون عن الكلمات المتقاطعة، الراغبون في التسرية عن أنفسهم والانشغال بتحقيق فوز صغير لا يؤذي أحدًا ولا يضر، إلى ألغاز أخرى فرضت نفسها على المشهد العام، وجعلته مشوقًا مثيرًا. صحيح أنها لا تخلو هي الأخرى من تكرار، وأن مكوناتها شبه ثابتة، ومواضع التقاطع والتشابك فيها واضحة لا جدال حول حلولها، لكنها تحظى بعنصر مهم؛ إذ لا ينتهي الأمر بمعرفة الناقص وملء الخانات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved