رحمة ونور

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 25 سبتمبر 2021 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

بعد الحروب وقصف المدافع والصراعات الكبرى تبقى دائما أشياء صغيرة تحمل الكثير من المعانى والدلالات والذكريات. جمعت المصممة المصرية شُشة كمال (شيماء كمال أبوالخير) بعض اللعب والمتعلقات الشخصية الخاصة بالأطفال الذين لقوا حتفهم فى الحرب الأخيرة على غزة، والتى استمرت أحد عشر يوما، ما بين 10 و21 مايو الماضى، وأسفرت عن مقتل 250 فردا من بينهم 66 طفلا، هذا بالإضافة إلى تدمير 1500 وحدة سكنية بشكل كامل. شاهدنا فى التليفزيون أبنية شاهقة تنهار مرة واحدة، تاركة عائلات كاملة تحت الركام، وتناقلت الصحف ووسائل الإعلام العديد من الشهادات الموجعة، فمازالت كلمات الطفلة زينة دبوس، عشر سنوات، تدوى فى أذنى وهى تقول لأمها معربة عن خوفها «إذا كان يجب أن نموت، فلنظل كلنا معا فى مقبرة واحدة، أريد أن أبقى فى حضنك».
فُجعت شُشة كمال من عدد الأطفال الذين قضوا فى الحرب، وهى التى صارت أما قبل فترة، وقررت الاستعانة ببعض المعارف فى غزة لتجميع ألعاب ومتعلقات الضحايا من الأطفال، بهدف إقامة معرض مفاهيمى يضم كل هذه الأشياء بشكل شعرى يعبر عن حجم المأساة ويذكرنا بها. وبالفعل نجحت فى أن يرى المعرض النور يوم الثلاثاء الماضى فى قاعة بأحد الفنادق القاهرية الكبرى، فقط لمدة ثلاث ساعات، ما بين السادسة والتاسعة مساء، معتمدة على جهودها الذاتية ومساعدة الأصدقاء، وكان بعنوان «66 لعبة».
•••
قدمت شُشة كمال أعمالا مركبة، الضوء ومتعلقات الأطفال هما العنصران الأساسيان فيها. قسمت قاعة الفندق التى تستخدم عادة فى الأفراح والمؤتمرات إلى حجرات صغيرة اتشحت جدرانها بالسواد. ننتقل من حجرة إلى أخرى بمصاحبة أصوات مختلفة، تارة تسجيل لضحكات الأطفال التى امتزجت بصراخهم أثناء اللعب، وتارة صوت الآذان وابتهالات دينية تذكرنا أننا كنا فى رمضان وعلى أبواب عيد الفطر، وفى معظم الأحيان تهدهدنا موسيقى ناعمة كتلك التى تنطلق عادة من العلب أو الصناديق الموسيقية الصغيرة التى تستخدم لتهدئة الأطفال عند النوم. هذه العلب الموسيقية التى عرفها العالم منذ القرن الثامن عشر وشكلت الخلفية الصوتية لطفولة الكثيرين حملت هنا شجنا مضاعفا وهى تروى تراجيديا هؤلاء الأطفال الغزيين. سمعنا أنغامها الرقيقة منذ دخول القاعة، وتمثال أبيض بجناحى ملاك يلف ببطء ليمهد للحدوتة الطفولية التى سنتابعها بالتدريج، من غرفة إلى أخرى. واحدة خصصت للدباديب التى عُلقت على الحائط بأجنحة من النور، وكتب إلى جوارها أسماء الأطفال الذين امتلكوها. والجملة الأصعب التى تكررت من غرفة إلى غرفة كانت «لم نتمكن من تحديد هوية الطفل».
نجحت المصممة الثلاثينية بإحساسها المرهف أن تجعلنا نغوص فى عالم الأطفال، جعلتنا نسمع أصواتهم وألعابهم تحكى عنهم.. كتبت عبارات قصيرة مؤثرة على الجدران جاءت على لسان الأشياء المعروضة، العروسة لولو تقول مثلا «كانت تحمينى بروحها»، ثم نرى مجموعة من العرائس المعلقة بواسطة بالونات من الضوء. بعدها يأتى دور فساتين العيد فى الغرفة الصغيرة المجاورة: «كانت فرحانة أوى بيا»، وهكذا من غرفة إلى أخرى نتعرف على فانوس رمضان وصاحبه الذى كان «بيصوم نص يوم»، أو حقائب المدرسة التى وضعت فى إطار ضوئى على شكل حافلة مدرسة كان يملؤها يوميا «سوبرمان» بأحلام جديدة، أو حذاء يؤكد أنه سيرافق صاحبه «فى أول خطواته للجنة»، أو رسومات وشخابيط احتفظ بها الأهل. ربما كانت هذه الرسومات ضمن آخر ما صنعه هؤلاء الأطفال مع ذويهم، فقد كان المتخصصون ينصحون الأهل بالمداومة على الرسم مع أولادهم خلال الحرب لتهدئتهم، وكذلك مصاحبتهم خلال الصلاة والدعاء.
•••
ضمت إحدى غرف المعرض الصغيرة سريرا صمم أيضا من لمبات الضوء الرفيعة، بدلا من القوائم الخشبية المعتادة. تدلت من فوقه الألعاب التقليدية التى تشغل الأطفال بحركاتها وأصواتها حتى يغلبهم النعاس، صوت الموسيقى الخافت يَعِد بنوم هادئ وأحلام سعيدة. نشعر نحن بحجم الكابوس الذى كان بانتظارهم وانتظار أهلهم. وفى آخر حجرات المعرض تطالعنا صور المفقودين مطبوعة على أعلام بيضاء، مع تحديد الأسماء والسن لكلٍ منهم. نتعرف عليهم وجها لوجه، بعد أن سمعنا حكاياتهم من خلال ألعابهم ومتعلقاتهم. العيون من حولك احتبست فيها الدموع. حزن شفاف. سيدتان نفهم من حديثهما أنهما مقيمتان بين القاهرة وغزة تتعرفان على بعض الضحايا، هذا من بيت فلان، وهؤلاء إخوة ضمن عائلة كانت تسكن فى عمارة أبوعوف. أحاول أن أتذكر هل كانت هذه البناية التى عثروا على 42 جثة تحت أنقاضها، من بينهم عشر سيدات وثمانية أطفال؟ لا أجرؤ على السؤال أو بالأحرى بعد مشاهدة أعمال المعرض لا يقوى الفرد على الكلام، فهى تجسد بعمق فكرة «الرحمة والنور» التى نكررها تلقائيا عندما نعلم بخبر رحيل أحدهم، دون طنطنة كاذبة. لا يكفى بالطبع يوما واحدا للعرض، فهذه النوعية من الأعمال الذكية يجب أن تطوف العالم، لتلمس قلوب آخرين مثلما فعلت فينا، خاصة وأن شُشة كمال مصممة أثاث حصلت على عدة جوائز عالمية ولها اسمها الذى قد يساعد فى وصول أصوات الضحايا، وسبق أن لاقت مبادرتها لإنارة قارة أفريقيا من خلال إطلاق علامة تجارية لتصميمات الإضاءة بالتعاون مع 20 فنانا من بلدان مختلفة صدى جيدا، قبل حوالى ثلاث سنوات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved