لعنة الذباب

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 25 أكتوبر 2015 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

ذبابة تقف أعلى القدم، تلتصق بالجلد، تدغدغه بالملامسة، ثم تأتى أخرى لتزاحمها، وثالثة ورابعة.

للحظات تشعر وكأنك أصبحت محور الكون بالنسبة لذباب الحجرة والحجرات المجاورة. لها ما يشبه الأظافر متناهية الصغر التى تسمح لها بأن تمشى على الحائط دون أن تسقط، فتطير إلى أعلى وتستريح على زجاج النافذة. تفرك ساقيها الأماميتين كى تنظفهما مما قد يكون قد علق بهما من أتربة أو حبوب لقاح وخلافه، فعلى عكس ما نظن الذباب حشرة لا تحب أن تتسخ فيضطرب إدراكها الحسى. وعندما تكره أنت حياتك بسبب مطاردتها لك، هى والأخريات، فتقرر اغتيالها، تراك وأنت تصوب سهامك نحوها، حتى لو أتيتها مباغتة من الخلف، لأن عينيها المركبتين تسمحان باتساع مجال الرؤية ليشمل أحيانا كل ما يحيط بها.

•••

تجذبها رائحة العرق بما تحتوى عليه من أملاح معدنية، خاصة الصوديوم الموجود على الجلد وفى البول والبراز والدموع. لذا أصبح مشهد الطفلة الباكية، منبوشة الشعر، والذباب متراص على طرف عينها، من كلاسيكيات مشاهد مصر المحروسة التى صار الذباب القارص من أهم ملامح الحياة فيها. مصدر ضمن مصادر الإزعاج اللامتناهية. يبدأ فى الأزيز واللف والدوران فوق الرءوس، حتى يعرف الفرد منا أن الله حق ويندم على ما فعل، كأننا شخوص مسرحية «الذباب» للكاتب الوجودى جان بول سارتر. أصابت مدينته المتخيلة لعنة الذباب، فجاء بالآلاف لمطاردة أهل البلدة كى يتوبوا عما فعلوا ويكفروا عن ذنبهم. سكان هذه المدينة، التى استلهمها الكاتب من الأساطير الإغريقية ليجعل رمزيتها صالحة لكل مكان وزمان، سكتوا عن الحق فعاقبتهم الآلهة.

أيقنوا أن زوجة الملك تآمرت عليه هى وعشيقها، لكنهم لم يهبوا لإنقاذه فمات أمام أعينهم، وظل دمه معلقا فى رقابهم جميعا. تنازلوا عن حريتهم واستسلموا لسلطان الملك الجديد طواعية فافترستهم الحسرة يوما بعد يوم، وهم لا يدركون أنهم يعيشون فى أسفل سافلين.

خلال عيد الأموات تحاصرهم الأرواح من كل جانب، لكى تقتص منهم، إذ ارتضوا الظلم والخنوع. كل من فى هذه المدينة يشعر بالذنب، يجلد ذاته، دون أن يتحرك لتحمل مسئولياته أو ليتصالح مع الواقع ويحاول تغييره، يهربون إلى الندم ويفضلون التعايش مع الذباب عن الاعتراف بالخطيئة والتحرر منها. سلطت عليهم الآلهة الذباب، ولم ترد أن تغيرهم قبل أن يغيروا هم من أنفسهم.

•••

الذباب يتكاثر بسرعة، فالأنثى الواحدة تبيض نحو ألف بيضة خلال 12 يوما، تلك فقط هى الفترة اللازمة ليظهر جيل جديد من الذباب يعكر صفو حياتنا، ويكفر سيئاتنا، خاصة عندما «تطلع ريحتنا». يطوف الذباب الأزرق خاصة على المقابر، حيث يقوم بوضع بيضة على الجثث، فتفقس يرقات تقوم بالتغذية على الجيفة. يعيش هذا النوع من الذباب تحديدا على الفضلات واللحوم والجثث المتعفنة والنافقة. يكشف أماكن الجثث وبالتالى جرائم القتل بسرعة كبيرة، بواسطة قرون الاستشعار التى تشبه اللاسلكى.

أراقب الذباب المنتشر فى كل مكان من حولى، وأحاول التفرقة بين أنواعه وأشكاله. أتأمله حينا، بدلا من أن أكتفى دوما بالقصاص منه. أرغب بالأحرى فى القصاص ممن جعله منتشرا لهذه الدرجة، ممن لا يضايقهم انتشاره وممن يفضلون جلد الذات عن التغيير، ممن يتعايشون مع الندم، ويتركون الذباب يتكاثر وهم فى غيبة من أمرهم، ممن يجعلون الحياة مستحيلة أو مكروهة أو شر لابد منه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved