«أصواتٌ» .. خارج صناديق الاقتراع

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 25 أكتوبر 2015 - 7:01 م بتوقيت القاهرة

هذا مقال يستند إلى نص لمقال كنت قد أعددته للنشر الأحد الماضي (عشية الانتخابات) عن «الأسباب المتوقعة، لما قد يبدو مقاطعة»، ثم آثرت إرجاءه حتى لا يبدو «دعوة» لمثل ذلك، أمّا وقد انتهت الجولة الأولى إلى ما انتهت إليه مما رأينا على شاشات التلفزيون، وسمعنا من أرقام (وليس من رأى كمن سمع)، فأعود إلى المقال الذي يجيب عن السؤال الرئيس: لماذا لم يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع؟

انتخابات ٢٠١٥ (تصوير حسين طلال)

لا أحد في وسعه أن يزعم أن هذه «الانتخابات»، بعد كل ما حصل، ونعرفه جميعًا هي »الانتخابات» التي تقصدها كتب السياسة

عدا اللافتات "الدعائية" الملونة التي تملأ الشوارع، والمناشيتات "الدعائية" الموجهة التي تملأ الصحف الرسمية، فلا أحد في وسعه أن يزعم أن هذه «الانتخابات»، بعد كل ما حصل، ونعرفه جميعًا هي الانتخابات التي تقصدها كتب السياسة حين تتحدث عن «الأدوات السلمية لتداول السلطة». أو أنها حتى تعبير عن رغبة السلطة الحاكمة في الالتزام بما يستوجبه الدستور. إذ يقول الواقع، الذي تؤكده التصريحات المعلنة أن لدينا سلطة لا تحب الدستور، كما أنها تعتقد أن هذا «ليس وقت الديموقراطية».

عندما تفضل الأستاذ محمود سعد فسألني في برنامجه قبل أيام: لماذا رأينا لجان الاقتراع هذه المرة «شبه فارغة»؟ كانت إجابتي الأولى والمختصرة: «لأنه ببساطة لم تكن هناك انتخابات». أما تفصيل ذلك، فربما كان، رغم ما يظنه البعض أكثر بساطة ووضوحا: إذ رغم أنه من الناحية القانونية البحتة لدينا لجنة عليا للانتخابات. وقانون لمباشرة الحقوق السياسية .. إلى آخر ما كان لازما «لاستيفاء الشكل»، إلا أنه من الناحية السياسية لم  تكن لدينا انتخابات .. إذ تبقى النصوص واللجان والإجراءات، على أهميتها مجرد تفاصيل، أما «الانتخابات» التي تعرفها كتب السياسة، فتعني تنافسا بين أفكار وبرامج. وهذا ماغاب ليفسح المجال لتنافس من نوع آخر كان واضحًا وفجا في اللافتات والتصريحات «والتربيطات» السابقة للإعلان عن القوائم.

بتعريف العلوم السياسية لم يكن لدينا إذن ما يمكن تسميته «بالانتخابات». ولكن الأخطر ربما يتبدى في الإجابة عن السؤال ذي الصلة: هل كانت الدولة؛ التي لا تريد أن تعترف بضعف الإقبال، تريد انتخابات «حقيقية»؟

ربما ليس من الحكمة أن أقطع بالإجابة. ولكن يبقى عليها شاهدان:

الأول: ما سمعناه من رئيس الجمهورية أكثر من مرة من دعوة الأحزاب والقوى السياسية للتوافق والاصطفاف تمهيدا للانتخابات. وهو ما يتناقض تعريفا مع مفهوم الانتخابات فضلا عن الدور المفترض للأحزاب.

الثاني: ما جرى من إجراءات أمنية وإدارية استهدفت إخراج قائمة «صحوة مصر» من السباق الانتخابي. (أرجوكم راجعوا التفاصيل فيما حكاه د. نور الدين فرحات ومحمد رؤوف غنيم). ولمن لا يعلم أو قد يظن أنها كانت قائمة لأصحاب اللحى (والذين أرجو ألا ننسى أن لهم دستوريا كل حقوق المواطنة) كانت تضم أسماءً  من بينها: عبدالجليل مصطفى ويحيى حسين عبد الهادي ونور الدين فرحات وجورج اسحق وحنا جريس وعبد الخالق فاروق وعمار علي حسن … الخ

غابت المنافسة السياسية إذن عن صناديق الاقتراع. فلم تعد لدينا «مباراة» للكرة بل «تدريب» للفريق. لا يتنافس فيه اللاعبون إلا على رضا المدرب الجالس في المقصورة. وفي التدريب عادة يغيب حماس الجماهير

•••

السؤال الأهم: هل كانت الدولة؛ التي لا تريد أن تعترف بضعف الإقبال، تريد انتخابات «حقيقية»؟

ينسى البعض أن المصريين عرفوا «الدولة» منذ آلاف السنين. وأنهم عبر التاريخ الطويل «للدولة» تعاملوا مع حكام من كل لون وجنس وملة: الفراعنة والرومان والفاطميين والأيوبيين والمماليك والإنجليز والباشوات. وأنه من الطبيعي أن يصبح لديهم. أو بالأحرى لدى «الوعي الجمعي» لهم خبرة متراكمة في فهم السلطة السياسية. والحاصل أنهم أدركوا بالأدلة والشواهد أننا عدنا إلى نظام مبارك. أو توصيفا نظام الرجل الواحد. أما بقية أركان النظام فليست أكثر من سكرتارية للسيد الرئيس كما قال لنا الدكتور يوسف والي في يوم من الأيام. وعليه أدرك المصريون أن في مثل هذه دولة لا أهمية للبرلمان. والمثير أن الدولة نفسها لم توفر جهدًا في إرسال الرسائل التي تؤكد ضمنيا هذا المعنى. ففضلا عن التلكؤ الواضح في اجراء الانتخابات البرلمانية (والتي قالت خارطة الطريق أنها ستتم قبل ديسمبر ٢٠١٣، شهدنا على مدى العامين الماضيين حالة من «الإفراط التشريعي» في إصدار القوانين (أكثر من ٣٠٠ قانون في عامين). وإذا علمنا أن التشريع وإصدار القوانين هو الاختصاص الأصيل للمجلس التشريعي «البرلمان» تصبح الرسالة للناس واضحة.

•••

السبب الثالث لما بدا عزوفًا عن الصناديق، عبر عنه الناس في أحاديثهم العفوية لكاميرات التلفزيون، ويتمثل في فقدانهم الثقة في جدوى الصناديق كأسلوب للمشاركة السياسية. أو بالأحرى في أن لأصواتهم قيمة. إذ بغض النظر عن سبعة استحقاقات انتخابية أهدرت لسبب أو لآخر، يبقى الأكثر إثارة أنهم بعد أن لبوا نداء الدولة «والرئيس» للتصويت بنسبة تتجاوز ال ٩٨٪ على الدستور الجديد، فوجئوا بمن يخرج عليهم ليمهد لتعديله بشكل يطيل مدة الفترة الرئاسية ويوسع من صلاحيات الرئيس في عودة سافرة للأسس الدستورية لنظام ثاروا عليه. 

ويرتبط فقدان الثقة تقليديا «بفقدان المصداقية» وهي حالة تبدو أن الدوافع إليها تراكمت بداية من وعود الجهاز السحري لعلاج الإيدز وفيروس سي، وليس نهاية بتصريحات حكومية معيبة تستبق بيانات اللجنة العليا للانتخابات بالتحدث عن نسب معينة للتصويت. غافلة عن أن أي حكومة ينبغي أن تكون بعيدة تماما عن العملية الانتخابية «البرلمانية» والتي هي تعريفًا قد تسفر  عن تغيير الحكومة أصلا لصالح الحزب أو الكتلة السياسية الفائزة. كما ليس بعيدا عن أزمة «المصداقية» أيضًا ما كان من تلويح «تخويفي» بتطبيق غرامة الـ ٥٠٠ جنيه على الغائبين. إذ بغض النظر عن أن المقاطعة هي حق دستوري في الأساس (كتعبير عن موقف سياسي) يبقى الأهم هو ما يعلمه الملوحون بالغرامة من استحالة تطبيقها. (عدد المقيدين في الجداول يتجاوز الـ ٥٥ مليونا. فإذا صوت ٢٧٪ يصبح عدد الغائبين أكثر من أربعين مليونا. وللقارئ الكريم أن يتصور كم تحتاج النيابة العامة من الوقت لاستدعاء هؤلاء وسؤالهم عن سبب تغيبهم، وإن كان بعذر أو بدونه كما تقضي المادة ٥٧ من قانون مباشرة الحقوق السياسية.)

•••

السبب الرابع والذي لا يتردد الكثيرون الآن في تعليق الجرس في رقبته، هو ذلك «الإعلام الموجه»؛ إعلام التطبيل والكراهية، أو بالأحرى «إعلام الصوت الواحد». إذ لم ينجح الإعلام المكارثي «الموجه» فقط في تشويه كل ما هو نبيل ونقي في حياتنا، بل نجح أيضا في استفزاز عقول الناس، الذين افترض فيهم أصحاب تلك الرسالة الإعلامية «الغباء». بداية بأخبار أسر الجيش المصري لقائد الأسطول السادس، وليس نهاية بحديث الاستراتيجيين عن «مجلس إدارة العالم»، وعن مصير سد النهضة. ولأن الناس يعرفون «وسمعوا» من أين تأتي الرسالة الإعلامية، فقد كفروا، ليس فقط بما يشاهدون، بل وأيضا «بدعوات» من يوجه ما يشاهدون. وكان من الطبيعي أن تكون نتيجة الحشد الإعلامي الفج الذي يحاول «سَوق» الناس إلى التصويت (في تكرارلما جرى في انتخابات الرئاسة) أن ينفض الناس. عسى أن يكون هناك من يستمع إلى رسالتهم «الصامتة».

انتخابات ٢٠١١ (AFP)

لم يكن لدينا «مباراة» للكرة بل «تدريب» للفريق. لا يتنافس فيه اللاعبون إلا على رضا المدرب الجالس في المقصورة.

كما لم تتسع حلقة برنامج محمود سعد لتعداد الأسباب التي أدت لعزوف الناس (خاصة الشباب) عن صناديق الاقتراع، لن تتسع سطور هذا المقال. ولكني أود أن أضع أمام من لا يريد أن يعترف بضعف الإقبال هذه الأرقام إن أراد المقارنة:

ــ متوسط نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية في العالم؛ غنيا وفقيرًا = ٦٥٪ (وحسب الإحصاءات تكون أعلى نسبة تصويت هي في الدول الشبيهة بمصر، والتي تقع كثافتها السكانية بين ٥٥ مليونا و٩٩ مليونا)

ــ أكثر من ٢٧ مليونا شاركوا في انتخابات ٢٠١١ البرلمانية في مصر، والتي جرت تحت المطر وفي عز برد ديسمبر . ووصلت نسبة المشاركين في الجولة الثالثة إلى ٦٢٪.

•••

يبقى أن في كل انتخابات؛ (حقيقية كانت بالمعنى السياسي أو شكلية) هناك فائز وخاسر. 

والحاصل أن الذى نجح فى هذه الانتخابات، التى هجرها الشعب ــ وأتفق هنا مع دكتور نور فرحات (الذي لا يمكن رميه بتهمة «الأخونة» سابقة التجهيز) ــ هو غرفة العمليات السرية لصناعة برلمان موال للرئيس والتى بدأت عملها بقانون معيب لمجلس النواب ثم تقسيم مقصود للدوائر ثم تشكيل القوائم والاحزاب الامنية، ثم تشويه كل ما يمكن أن يكون صاحب رأي، ثم استخدام الأذرع الأمنية والإعلامية والقضائية لإقصاء ما قد يجادل، لا أقول يعارض الرئيس (أكرر: ما جرى مع قائمة صحوة مصر مثالا)

أما الخاسر، فهو للأسف «مصر» ذلك البلد الطيب الذي اعتقد البعض أن «الهتاف بحياته» هو جواز المرور إلى دائرة المقربين («المستفيدين» كما كان الحال دائما مع مثل تلك الدائرة). بعد أن غرتهم قوتهم فنسوا أن «الدوائر تدور». أليس هذا ما تقوله الحكمة القديمة.  

•••

«تحيا مصر .. بالعدل» كان شعار المقاطعين. وهل تحيا مصر أو غيرها إلا بالعدل

وبعد ..

فلعلها مفارقة أن أضطر لتكرار ما كنت قد حذرت منه الإخوان في ديسمبر ٢٠١٢ من أن حقائق المشهد السياسى، ليست كما يتمناها أو يطمئن اليها البعض. فموازين القوى ليست دائما كما تبدو على السطح، أو فى الفضائيات، أو التقارير «الرسمية». وكما أنها لم تكن يومها كما كانت تبدو في تجمعات أولئك «السامعين الطائعين»، فإنها الآن أيضا ليست كما تبدو فى تلك القاعات الفخمة المكيفة التي تجمع أصحاب الياقات البيضاء والوجوه اللامعة من الطامحين أو الطامعين؛ فهناك بعيدا عن السطح، ولكنه فى «قلب» المشهد، وقادر على «قلب» كل موازينه، تلك الجماهير العريضة؛ «الناس» الذين ربما لا تسمع لهم صوتا، ولا يصدرون بيانات، ولا يعنيهم ارتداء قبعات «الائتلافات أو القوى السياسية»، ولكنهم على الأرض، وفى ناتج المعادلة «القوة الحقيقية».

وفى النهاية.. الشارع هو الذى سيحكم؛ الذين وقفوا صفوفا طويلة أمام مراكز الاقتراع، فى برد ديسمبر القارس في انتخابات برلمان ٢٠١١ وحتى ما يقرب من منتصف الليل. مصممون على أن «يُحدثوا أثرا». مثلهم مثل أولئك الذين انصرفوا عن الدعوات الفارغة للتصويت على «برلمان شكلي» في خريف ٢٠١٥ فانشغلوا بلقمة العيش، أو احتشدوا في اليوم ذاته، أربعون ألفًا في ستاد مختار التتش، أو ابتكروا حملتهم العبقرية «الافتراضية» الموازية على الانترنت، رافعين شعارهم الذي يخطئ من يظنهم سيتخلون عنه: «تحيا مصر  .. بالعدل». بعد أن خصصوا لملصقاتها الانتخابية «قائمتين»؛ لأولئك لذين ضحوا بحياتهم «شهداءً»، أو  بحريتهم «مغيبين خلف القضبان». ليُذَكِّروننا، إن شئنا بأنه عندما «غاب العدل» غابت أصواتهم عن صناديق الإقتراع.

فهل هناك حقًا من تعنيه أصواتهم؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ نور فرحات: ماذا جرى مع «صحوة مصر»

ــ محمد رؤوف غنيم: الحكاية

ــ «تحيا مصر .. بالعدل» 

ــ الإعلام والانتخابات

ــ حديث النوايا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved