بين الواحات وباريس

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 25 أكتوبر 2017 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

«أنا لا أعطى دروسا لأحد فى حقوق الإنسان».
هكذا تحدث الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» فى المؤتمر الصحفى المشترك، الذى ضمه إلى نظيره المصرى «عبدالفتاح السيسى» بباريس.
فى التعبير شىء من الإقرار بجسامة الانتهاكات الحقوقية بمصر وشىء آخر من غلبة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية على المبادئ والقيم الحديثة.
لا جديد فى الكلام الرئاسى الفرنسى، وهو ـ بصيغة أو أخرى ـ امتداد لما كان يتبناه سلفه «فرانسوا أولاند».
رغم ضغوط المنظمات الحقوقية الدولية والميديا فى بلاده حاول «ماكرون» أن يمد خط المصالح ويقصر خط الصدام.
مع ذلك فإن عبارته تنطوى على تجاوز دبلوماسى فى حق بلد كبير بحجم مصر يصعب حدوثه فى أى مؤتمرات صحفية على مثل هذا المستوى.
بكلام آخر فإن سجل حقوق الإنسان والحريات فى مصر بات عبئا لا يطاق على صورة البلد ومصالحه وأمنه.
لا يعقل بكل زيارة رئاسية لدول غربية طرح هذا السجل كأولوية ومناقشته على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات دون أن تتاح ـ هنا فى مصر ـ مثل هذه المناقشة المفتوحة، أو أن يتبدى توجه لتحسينه واتخاذ ما هو ضرورى من إجراءات لرفع المظالم فى السجون، التى أقر الرئيس «السيسى» نفسه أكثر من مرة بوجودها.
عندما يغيب النقاش فى الداخل ينكشف البلد فى الخارج.
وعندما تغيب القدرة على التصحيح تأخذ أحاديث الدروس مداها.
فى زيارته الأخيرة للقاهرة، قبل مغادرة منصبه الرئاسى، قال «أولاند» لمضيفيه المصريين «إن قضية الحريات ضرورية للحرب على الإرهاب».
نفس المعنى ربما طرحه «ماكرون» فى الغرف المغلقة.
هذا كلام صحيح، فلا يمكن كسب الحرب مع الإرهاب بتكبيل حيوية المجتمع وإشاعة جو الخوف فيه.
نفى الأزمة لا يساعد على تحسين الصورة والالتزام المتكرر فى المحافل الدولية بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة يعوزه أى دليل مقنع.
كما أن الكلام المتكرر فى نفس المحافل من أن مصر ليست فيها ديكتاتورية يحتاج إلى حيثيات تثبته.
الإجراءات وحدها تكسب التصريحات صدقيتها وتحجب فى الوقت نفسه أية دروس فى حقوق الإنسان، أو أية تدخلات محتملة فى الشئون الداخلية.
الدول تكتسب مناعتها من تماسكها الداخلى وتوافق السياسات مع مصالح شعبها، وهذه مسألة حاسمة فى الحرب مع الإرهاب.
بإقرار الرئيس فى نفس المؤتمر الصحفى فإنه لا يوجد تعليم جيد ولا صحة جيدة ولا تشغيل جيد متسائلا: لماذا يتم التركيز على الحقوق السياسية دون الاجتماعية؟
الإقرار بنصه يعنى ـ بالضبط ـ أن هناك خللا مروعا فى الأولويات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة.
ما تحتاجه مصر أن تنظر فى المرآة لترى مواطن الخلل وتعترف بأنها ليست على الطريق الصحيح.
لا الحقوق السياسية يتوافر حدها الأدنى بتجفيف المجالين السياسى والإعلامى ولا الحقوق الاجتماعية لها حضور فى الشارع المحتقن بغياب أية عدالة فى توزيع الأعباء.
رغم نفى «ماكرون» لأية نية للتدخل فى الشأن الداخلى المصرى فقد أشار بالمؤتمر الصحفى لتطرقه فى المباحثات المغلقة إلى نقاط بعينها فى السجل الحقوقى دون أن يكشف عنها.
باليقين يدخل فيها قانون «الجمعيات الأهلية»، الذى يناهضه الاتحاد الأوروبى ويرى فيه خنقا للمجتمع المدنى فى مصر وبسببه حجبت الإدارة الأمريكية نحو (٣٠٠) مليون دولار من معونتها العسكرية والاقتصادية.
حسب إشارات غربية عديدة من المرجح تماما تجميد هذا القانون لحين إعداد آخر يتسق مع المواصفات الدولية، يحفظ للمجتمع المدنى حريته فى الحركة والمبادرة ويضمن بالوقت نفسه سلامة التصرف فى أية تمويلات أجنبية.
المثير ـ هنا ـ أن القانون المعيب مرر فى ظروف غامضة فى ساعات داخل البرلمان ونحى قانون آخر أعدته وزارة التضامن الاجتماعى بعد حوار مطول مع ممثلين للجمعيات الأهلية.
والأكثر إثارة أن التعديل المتوقع يأتى بضغط الخارج لا بالاستجابة لما دعت إليه الأغلبية الساحقة من الجمعيات الأهلية، التى يتجاوز عددها (٤٥) ألفا.
وفق ما صرحت به السفيرة «مشيرة خطاب» فإن هذا القانون ـ بالإضافة إلى إغلاق المكتبات وسجل حقوق الإنسان والحريات العامة ـ من الأسباب الجوهرية لإخفاقها فى نيل منصب مدير عام منظمة «اليونسكو».
هذه كلها أوضاع خطرة فى ظل حرب ضارية مع الإرهاب وصلت ذروتها فى حادث الواحات الدموى.
الصدمة عنوان رئيسى أول، حيث بدت العملية بحجم ما استشهد فيها من ضباط وجنود شرطة وبقدر ما كشفته عن مستويات تسليح وتدريب الإرهابيين، دليلا على أن الحرب سوف تطول وقد تفتح جبهة جديدة فى الصحراء الغربية توازى شمال سيناء.
غياب الشفافية والمعلومات عنوان رئيسى ثان، حيث بدا الخلل الإعلامى مروعا وعاجزا عن تلبية حق المواطنين فى المعرفة، وكان لذلك عواقبه فى الهزة العامة التى أعقبت الحادث الإرهابى.
إصلاح الجهاز الأمنى عنوان رئيسى ثالث لردم أية فجوة بين الأمن وشعبه وفق القيم الدستورية الحديثة، وهذه مسألة محتمة لكسب الحرب مع الإرهاب بالإضافة إلى أنها حاسمة لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة ـ بالأفعال لا الدعايات.
إذا لم يصلح الجهاز الأمنى فإن تكلفة الحرب مع الإرهاب سوف تكون باهظة.
القضية الحقيقة ـ الآن ـ ليست متى ينقضى الإرهاب بقدر ما هى خفض كلفته على الاستقرار والسياحة وسلامة المجتمع وتماسكه والثبات العام للدولة كلها.
بالتعريف فإن الحرب على الإرهاب تقتضى تضافر كل مقدرات الدولة، وهذه ليست مهمة الأمن وحده.
هناك مصدران لنيران الإرهاب.. أولهما ـ ثغرات الوضع الداخلى، التى تسمح بتمركز الجماعات الإرهابية فى بنية المجتمع مثل ارتفاع معدلات الفقر المدقع وغياب أية فرص لحياة شبه كريمة وتضييق المجال العام بما يكاد يخنق الأنفاس.. وثانيهما ـ ما يحدث فى الإقليم حولنا حيث من المتوقع مع تقويض «داعش» فى سوريا والعراق أن تغادره إلى مناطق أخرى بينها مصر، كما قد تهاجر جماعات إرهابية متمركزة فى ليبيا إلى الصحراء الغربية فى مصر.
المصدران متداخلان والفصل بينهما شبه مستحيل.
بالنسبة للأمن الفرنسى فهناك أولويتان إقليميتان هما ليبيا حيث مخاوف الهجرة غير الشرعية وسوريا حيث مخاوف انتقال جماعات من «داعش» إليها.
نفس الأسباب تدعو مصر ـ بصورة أخرى ـ إلى النظر فيما وراء الحدود من مخاطر وجودية.
تلك مسألة حركة وهيبة تنتقص منها الصورة السياسية المفرطة فى سلبيتها.
كما أنها مسألة استراتيجية على درجة عالية من الخطورة.
بين الواحات وحادثها وباريس ورسائلها يتبدى سؤال بلا إجابة:
أين استراتيجية مكافحة الإرهاب؟
نظريا: المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب، الذى أعلن عنه قبل شهور، المخول بوضع مثل هذه الاستراتيجية.
عمليا: فهو لم يجتمع منذ إنشائه سوى مرة واحدة للتعارف ـ كأننا ننشئ مؤسسات بلا أدوار لاستيفاء الشكل.
بين الواحات وباريس تعلن الحقائق عن نفسها، فلا فصل بين الحرب على الإرهاب وبناء الدولة الحديثة التى تحفظ الأمن وتحترم الدستور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved