المقاومة الشعبية وانتصارات أكتوبر

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 25 أكتوبر 2021 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

على امتداد التاريخ البعيد للدولة المصرية العتيدة، ظل الشعب المصرى المقدام شريكا داعما لجيشه فى النضال الوطنى ودحر المعتدين. واستكمالا لدورها المعطاء والمتواصل، أبت المقاومة الشعبية الجسورة، إلا أن تتبوأ مواقعها على جبهات المواجهة ضد العدو الإسرائيلى. فبداية من حرب فلسطين عام 1948، مرورا بأزمة السويس سنة 1956، ثم حروب الاستنزاف (1967ــ1970)، كان مقاتلوها البواسل فى قلب الحدث. وإبان الملحمة الأكتوبرية الخالدة عام 1973، تجلت بطولاتهم فى معركتى الثغرة والسويس، اللتين حاول العدو، عبثا، من خلال افتعالهما، تغييرمجرى العمليات العسكرية، طمعا فى تشويه النصرالمصرى المبين.
دأب عامة المصريين،على تسمية أسود المقاومة الشعبية «الفداوية»، أو«الفدائيين»، كونهم لا يترددون فى اقتحام الصعاب، والقيام بأخطر المهام، والتضحية بحياتهم فداء لوطنهم. فى المقابل، كان وزير الدفاع الإسرائيلى موشى ديان، ينعتهم بـ«الأشباح»،لأنهم كانوا يعكفون على تنفيذ العمليات النوعية الجريئة الموجعة والمتتالية، خلف خطوط العدو فى عمق سيناء، بنجاح مبهر، مكبدين قواته خسائر مادية وبشرية جسيمة، ثم يذوبون، دون أن ترقبهم أعين العدو الاستطلاعية المتربصة، أو ترصدهم أجهزة استخباراته ووسائل تتبعه الإلكترونية المتطورة.أما صاحب المقال، فيجنح لاعتبارهم، مجازا، جيش مصر الرابع بالاحتياط، إذ سرعان ما يلبون نداء الوطن، بالاحتشاد والانضواء تحت لواء جيشنا المغوار، كلما استدعت الظروف.
من رحم هزيمة يونيو 1967، انبلج دورالمقاومة الشعبية الباسلة فى حرب أكتوبر 1973. فعلى وقع تلك المأساة، قام أبناء السويس، ممن آثروا البقاء على التهجير، بتشكيل مجموعات مقاومة شعبية حملت مسمى «منظمة سيناء العربية»، التى غدت فصيلا ضاربا ضمن قوات الدفاع المدنى. ولما كان سر انتصار وتفوق المصريين يكمن فى التلاحم الوطنى الخلاق بين الجيش والشرطة والشعب، فقد اشتملت المنظمة على عسكريين ومدنيين ورجال شرطة، بإشراف مباشر من المخابرات الحربية، وقيادة اللواء صادق، الذى أضحى لاحقا وزيرا للحربية.
طوال سنى حرب الاستنزاف، أبلى رجال المقاومة الشعبية بلاء حسنا. فمن أبطال منظمة سيناء، من عبر قناة السويس مئات المرات، لتنفيذ عمليات فدائية خلف خطوط العدو، وفى عمق أراضيه، مستهدفا نقاط تموضع قواته ومنشآته، مستعينا بالجمال فى حمل الأسلحة ونقل المؤن والمعدات، تحايلا على الرقابة المشددة والمتواصلة من قبل أجهزة الاستطلاع المعادية. وفى لفتة عسكرية لا تخلو من دلالات موحية، قام بعض رجال المنظمة بجمع الأسلحة والمعدات التى خلفها الجيش المصرى فى سيناء أثناء انسحابه، وعمدوا إلى إخفائها بأماكن سرية، توطئة لإعادتها إلى القوات المصرية فيما بعد. واستجابة منها لطلب القيادة المصرية، رشحت المنظمة عددا من خيرة شبابها للتدريب على الاضطلاع بالمهام الاستطلاعية والاستخباراتية، حتى أنهم حققوا نجاحات خارقة فى العمليات التى عُهد إليهم بتنفيذها داخل إسرائيل.الأمر الذى قض مضاجع قيادات العدو، ودفعها إلى إدراج بعضهم على قوائم الاغتيال والإعدام، بعدما جرح كبرياءهم بعملياته المؤلمة.
كذلك، انخرط المقاتلون المتطوعون مع مجموعة 39 قتال، وشاركوا فى تنفيذ العديد من المهام الرائعة خلال حرب الإستنزاف ومعارك أكتوبر. نذكر منها، على سبيل المثال وليس الحصر، قيام رجالاتها، فجر يوم 19 أغسطس 1969، بشن هجوم مفاجئ عبر صواريخ كاتيوشا على مطار العريش، ثم استهداف مستعمرة إسرائيلية تسمى «نحال سيناى»،على مقربة منه، والتى كانت تستوطنها زرافات من جنود العدو. الأمر الذى أفضى إلى تخريب المطار والمستوطنة، وإسقاط عشرات القتلى والجرحى الإسرائيليين.
فى الأثناء، أشرفت القوات المسلحة على تأسيس جمعية «مجاهدى سيناء»، التى استوعبت أفواجا من الفدائيين،الذين التحموا مع القوات المسلحة فى القتال ضد تمركزات العدو فى سيناء. حيث أسندت قيادة هذه الجمعية إلى العميد مدحت مرسى، الذى تولى تدريب عناصرها على استخدام الألغام والمتفجرات والقنابل، وتحضيرهم لشن الهجمات ضد القوات المعادية. بموازاة ذلك، اختار جهاز الاستخبارات العامة قرابة 1100 فدائى مدنى متطوع، أغلبهم من بدو سيناء، ومحافظات القناة الثلاث، للاستعانة بهم فى العمليات النوعية.
استنادا إلى تقديراته الاستخباراتية المشوهة، التى ظنت السويس مدينة أشباح، خالية من السكان والقوات المصرية، بما يجعل مغامرة الاستيلاء عليها أقرب إلى نزهة حربية، زج العدو بلواء مدرع وكتيبة مشاة من لواء المظليين باتجاهها، متجاهلا قرار وقف إطلاق النار، المعلن يوم 22 أكتوبر. وبغطرسته المعهودة، ادعى العدو أن تحركاته لا تمثل انتهاكا للقرار الأممى، لاسيما إذا انطلقت قبل الساعة السابعة من صبيحة ذات اليوم، واستمرت حتى حين، كون العرب هم الذين بدأوا بشن الحرب، كما أنهم من سعى لاستصدار القرار الأممى، الذى زعم العدو أنه يشمل الجبهة فقط، بينما لا ينطبق على مدن القناة. ودونما خطة دقيقة، دخلت قوات العدو مدينة السويس، لتجعل منها مسرحا لآخر المعارك الكبرى بحرب أكتوبر، خلال الفترة من 23 وحتى 28 أكتوبر.
بمنتهى الغطرسة، أغفلت معلومات العدو المنقوصة عن السويس، أشاوس الجيش الرابع المصرى، ممثلا فى أسود المقاومة الشعبية، الرابضين فى أرجائها، تأهبا لتسجيل بطولات كتلك التى بذلوها ضد العدوان الثلاثى الغاشم فى مثل هذه الأيام من عام 1956. فبمجرد دخوله السويس، تعرض اللواء الإسرائيلى لكمين تكبد على إثره خسائر فادحة، كما أُمطرت قوات المظليين بوابل كثيف من النيران، جعلتها محاصرة داخل المبانى السكنية، التى لاذت بها. وعبر تلاحم بديع مع قوات الجيش الثالث والشرطة المدنية بالسويس، نجح أبطال المقاومة الشعبية فى تدمير 67 دبابة إسرائيلية، فى غضون ساعات ثلاث. وبفضل العناية الإلهية وشجاعة الأبطال، صدت «بلد الغريب» العدوان، وصمدت أمام الحصار الذى بدأه العدو يوم 26 أكتوبر، واستمر 101 يوما، حتى ولى يجر أذيال الخيبة، يوم 14 يناير 1974، تحت إشراف لجنة فنية من الصليب الأحمرالدولى.واحتفاء منه بالمدينة الأبية، وتقديرا لتضحيات أبنائها الأوفياء وفدائييها الشرفاء، قام الرئيس السادات، بعد أشهرمعدودات، وتحديدا فى الرابع من يونيو 1974، بأولى زياراته للسويس.
فى مذكراته، أشاد الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة إبان المعجزة الأكتوبرية، بأبطال المقاومة الشعبية أثناء معركة السويس، بالقول: «ستبقى تلك الملحمة شهادة إضافية على عظمة المواطن المصرى، الذى تحلى بروح التحدى، وتمتع بالقدرة على تحمل الصعاب، والصلابة حين البأس. فمقابل سقوط 14 شهيدا من أعضاء «منظمة سيناء العربية»، خسر العدو جراء محاولته الفاشلة احتلال السويس، يومى 24 ــ 25 أكتوبر، أكثر من 100 قتيل، ونحو 500 جريح. وبرغم اعتماده على فرقة مدرعة تضم ثلاثة ألوية ولواء مظلى، نجح سكان السويس وثلة من الجنود الشاردين، فى التصدى لهجومه الغاشم وإفشاله. أما اللواء فؤاد حسين، المعروف بصائد الجواسيس، فأكد فى مؤلفاته، أن العدو الإسرائيلى كان يهاب مقاتلى منظمة سيناء العربية، كخشيته الجيش المصرى، أو أشد خشية.
عرفانا منها بصنائع أبنائها المخلصين، بادرت الدولة المصرية بتكريم أبطال المقاومة الشعبية،حيث منح الرئيسان عبدالناصر والسادات، أنواط الامتياز لمئات منهم.وبعدما وضعت حرب أكتوبر المجيدة أوزارها،شُكلت لجان بالمخابرات الحربية لحصر وتوثيق المجاهدين من أعضاء«منظمة سيناء»، الذين شاركوا فى معارك العزة والفخار. وسجلت اللجنة سبعمائة وسبعين عنصرا، كانوا ينتمون إلى 12 محافظة، بينهم 13 من العسكريين السابقين العاملين بالمخابرات الحربية، والذين أداروا المنظمة ودربوا أفرادها، وقادوا عملياتهم النوعية الناجحة على أرض الفيروز. أما الباقون، فكانوا من المدنيين المتطوعين وعددهم 757 شخصا،جلهم من مدن القناة الثلاث، فيما التأم الآخرون من مختلف محافظات الجمهورية. وبينما حصل 739 عضوا، كانوا لايزالون على قيد الحياة وقتئذ، على نوط الامتياز من الطبقة الأولى، تم تكريم أرواح 18 شهيدا ومفقودا آخرين، عبر منحهم وسام الجمهورية.
من بين نجوم شتى تلألأت فى سماء المقاومة الشعبية المصرية، سطع الشيخ حافظ سلامة، رئيس جمعية الهداية الإسلامية، إمام وخطيب مسجد الشهداء بالسويس. فقد استبق إسهاماته البارزة فى معركة السويس، بمبادرة لشحذ همم قواتنا المسلحة عقب هزيمة 1967. حيث اقترح على القيادات العسكرية، وقتها، تشكيل قوافل دعم معنوى من الدعاة والعلماء لرفع الروح المعنوية للمقاتلين على طول الجبهة. وفور اعتماد مقترحه، بدأ بتنفيذه فى السويس، بمشاركة عدد من كبار العلماء، وبعدما لاقى نجاحا مدويا، تم تعميمه على جميع خطوط المواجهة. ولقد أشاد الفريق عبدالمنعم واصل، قائد الجيش الثالث، يومئذ، بالنتائج الرائعة للمبادرة، إذ قال: «كان الشيخ حافظ سلامة صاحب الفضل الأول فى رفع الروح المعنوية للجنود على الجبهة، بل إن الجميع كانوا يعدونه أبا روحيا لهم فى تلك الأيام العصيبة.» ورغم كونه مدنيا، حصل سلامة على وسام «نجمة سيناء»، وهو أعلى وسام عسكرى مصرى. فخلال فعاليات الاجتماع التاريخى، الذى انعقد، بمجلس الشعب عام1974، للاحتفال بالنصر المبين، قام الرئيس السادات بتكريم أيقونة المقاومة الشعبية بالسويس، ومنحه الوسام، تقديرا لحسن صنيعه حيال بلاده وأمته.
مهما جرى القلم أو سال المِداد، لن يتسع القرطاس، لتسطير إلياذة الإنجازات التليدة والتضحيات العظيمة، التى نظمها رجال جيشنا الرابع من عمالقة المقاومة الشعبية الشجعان، بدمائهم الذكية وأرواحهم الطاهرة، قبل وأثناء معارك أكتوبر المضيئة. وحتى يتسنى تخليد تلك الأمجاد فى وعى ووجدان أبنائنا، أبد الدهر، حرى بمختلف الجهات والمؤسسات المنوط بها صوغ سرديتنا الوطنية وحفظ ذاكرتنا التاريخية، أن تعكف على تبيان تلك الفعال الحميدة لطلائعنا وأجيالنا الواعدة، وتبصيرهم بمدى ثراء وعظم عطاء من سبقوهم بنضال، جدير أن يبقى معينا مُلهما لا ينضب، ونبراسا هاديا لا يخبو.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved