السحر والساحر والمسحور

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الخميس 25 نوفمبر 2010 - 10:37 ص بتوقيت القاهرة

 فى بدايات حياتى العملية كانت لى فرصة العمل فى الريف، وكان ذلك فى السبعينيات من القرن الماضى، وهناك اندمجت مع الناس فى حياتهم وتدخلت فى مشاكلهم. وكانت إحدى المشاكل الكبرى أن فتاة جميلة ربما كانت أجمل من فى القرية أراد أن يتزوجها قريب لها عائد من الخليج بعد تكوين ثروة، وقد أعطاه والد الفتاة موافقته، إلا أنه بمجرد أن قام هذا القريب بزيارتهم لأول مرة بعد أن أعلن عن رغبته، حتى بدأت الفتاة تقوم بحركات غريبة، وتتفوه بكلمات عجيبة غير مفهومة. وعندما سألتها أمها قالت إنها كلما نظرت إلى هذا الشاب ترى وجهه «وجه جاموسة» فينقلب كيانها وتتحرك بطريقة لا تتحكم فيها وتتفوه بكلمات جارحة وخارجة، وهنا صمم والدها أن يقوم بتزويجها من قريبها هذا وضربها ضربا مبرحا أدى إلى كسر ذراعها.

وعندما علمت من أم الفتاة بما حدث طلبت منها أن تدبر لى لقاء معها، وفعلا جلست مع الفتاة، فقالت لى لابد من أن أحدا عمل لى عملا سحريا يجعلنى أتصرف هكذا، لكن بعد كلام كثير أقنعتها بأنى لست أؤمن بهذه الأمور وأن هذا «كلام فارغ»، وسألتها بوضوح إن كانت ترتبط بعلاقة مع شاب آخر فعليها أن تصارحنى لأنى الوحيد، الذى يستطيع أن يقنع أباها بتغيير رأيه لأنه صديقى وعليها أن تثق بى، فاعترفت لى أنها على علاقة بشاب آخر. وعندما علمت اسمه أدركت أن اختيارها خاطئ فقد كان شابا فاشلا فى دراسته، ومتهورا دائم العراك والنصب على الناس، وقد كانا يلتقيان فى الحقل فى خفية من الأهل. وهنا بدأت أقنعها أن تقارن بين هذا الشاب الفاشل وبين الشخص المتقدم لها، فالشاب الذى تميل إليه يمكن أن تنتهى حياته بالسجن، أما قريبها فلديه ثروة يمكن أن تنقلها نقلة جيدة لتعيش فى المدينة (البندر)، وتكون لديها أدوات كهربائية فضلا عن السيارة.

وبعد أن اقتنعت كانت المعضلة فى كيفية التصرف مع الوالد فى حالة اكتشافه أنها كانت تعارض زواجها من قريبه بسبب تعلقها بالشاب الآخر خاصة وقد غيرت رأيها فجأة بدون سبب واضح، وهنا أخذت ورقة صغيرة وكتبت عليها بعض الحروف غير المتناسقة بقلم أحمر أحمله دائما فى جيبى، وبعد ربط الورقة ببعض الخيوط أعطيتها للام خصوصا أنها كانت تعلم جيدا أن ابنتها تدعى أنها مسحورة وشرحت لها الخطة فى حضور ابنتها، حيث طلبت منها تنتظر حتى تحين ساعة الغروب وعودة الفلاحين مع البهائم من الحقول ثم تجلس على عتبة الباب كعادة الفلاحات وتخرج هذه الورقة من تحت عتبة الباب وتقف صارخة وتقول «الله يجازى اللى يعمل عمل لبنتى»، وعندما يتجمع الناس على صراخها تقوم بإحراق الورقة بسرعة وقبل أن يقرأها أحد. وهكذا تم الأمر وتزوجت الفتاة من قريبها بعد فك السحر، حيث رأت وجهه كالقمر وليس كالجاموسة.

وفى حادثة أخرى ادعت زوجة شابة أن «جنيا» يعاشرها وعندما يأتى إليها تترك زوجها وتنام فى حجرة منفردة، وعندما تحرت زوجتى الأمر منها اكتشفنا أن زوجها يملك سمات سادية أو يعاملها بعنف فى العلاقة الزوجية لذلك ادعت الزوجة ذلك، وعندما تحدثنا إلى الزوج ناصحين إياه أن يعامل زوجته برفق حتى لا يأتى الجنى إليها اقتنع، وبدأ يحسن من معاملته لزوجته وهكذا غاب الجنى لبعض الوقت لكنه عاد ثانية، وعندما سألت الزوج هل عدت للعنف؟.. قال نعم، ووعد بأنه سيتوب وشيئا فشيئا غاب الجنى تماما بعد أن أصبح الزوج أكثر رقة فى معاملته لزوجته، فعندما صار الزوج إنسانا اختفى الجنى.

تذكرت هذه الحكايا القديمة عندما قرأت عن القاضى السعودى المسحور، والذى قام بمساعدة عصابة مكونة من 11 فردا بالاستيلاء على قصور سكنية كانت الدولة قدمتها كتعويضات للمواطنين بدلا من القرض المالى، وعندما اكتشفوا تورطه ادعى أنه مسحور «معمول له عمل»، وطلب من أحد الشيوخ أن يفك له العمل وأن يرقيه، ولعلنا من هذه القصص الواقعية نستطيع أن نخرج بملاحظتين:
أولا: إن أبطال القصص الثلاث غير مقتنعين بوجود السحر، فالواضح أن الأم وابنتها فى القصة الأولى استخدمتا فكرة السحر للهروب من مشكلة الزواج بشخص لا تحبه الفتاة وحيث إن الفتاة فى الريف ولا تستطيع أن تعلن رأيها بصراحة، فقد عبرت عن هذا الرأى من خلال خرافة منتشرة وهى الأعمال السحرية، وهكذا تبدو أنها تريد طاعة الأب لكن هناك قوى خفية تضغط عليها وقد ساعدتها الأم فى ذلك.

ولو كانت هاتان المرأتان تؤمنان بالسحر لخشيتا من انتقام الجن منهما فى حالة استخدامهما له والسخرية من قوته لفرض رأيهما على الرجل حتى يوافقهما دون أن يبطش الجنى بهما.

ولقد كاد الرجل يستجيب لرغبة الفتاة لولا أن الفتاة غيرت رأيها بإرادتها الحرة فاستخدمت الجن مرة أخرى للخروج من المشكلة. ونفس القصة تكررت مع الزوجة التى يعاملها الزوج بطريقة سيئة ولا تستطيع أن تحكى لأحد ما يحدث معها فى غرفة النوم فتفتق ذهنها عن حيلة الجنى، الذى يصاحبها للخروج من المأزق، وفى الحالتين يتضح ذكاء المرأة المصرية على حساب ذكاء الرجل، رغم أن المرأة فى الريف تدعى الغباء، حيث إن الرجل يمتلك القوة والعقل وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى البيت (أو هكذا تصور الرجلان بطلا القصة). أما القاضى السعودى فهو أيضا أراد الهروب من المسئولية الجنائية بإلقاء المشكلة على السحر، وأن هناك من قاموا بأعمال سحرية ضده، ولكى يشفى طلب من أحد الشيوخ أن يفك له السحر، وهو أيضا أراد بذكاء أن يتخلى عن المسئولية، ولكن هل سوف يقتنع القضاء بمثل هذه الحجج ؟! دعونا ننتظر لنرى.

ثانيا: لقد ساهمت الفضائيات الدينية فى انتشار وتعميق مثل هذه الخرافات:
ففى السبعينيات من القرن الماضى كان الفلاحون يسخرون من أى شخص يتحدث عن رؤيته للجان أو زواجه من جنية، ويعتبرون هذا نوعا من الهلاوس وأن الذين يدعون ذلك مرضى. وكان هناك بعض المستنيرين فى القرى ينصحون أقارب هؤلاء الناس بأن يعرضوهم على الأطباء النفسيين المتخصصين فى الأمراض العصبية، وكان البعض يستجيب والبعض الآخر يفضل العلاج بالقرآن أو الكتاب المقدس، أو حفلات الزار وذلك لضيق ذات اليد.

إلا انه مع ظهور الفضائيات، وظهور رجال الدين الذين يتحدثون عن هذه الظواهر، وكأنها من قلب الدين والكتب المقدسة بل هناك من يعالج مثل هذه الحالات على الهواء مباشرة، مما أدى إلى انتشار هذه الظواهر بقوة رهيبة، وجعل المستنيرين يحجمون عن إعلان رأيهم حتى لا يتهموا بالكفر والخروج عن الكتب المقدسة، والمشكلة بالطبع ليست فى الكتب المقدسة لكن فى الذين يقومون بتفسيرها.

قال أحد المفسرين العظماء إنى أمسك الجريدة اليومية بيدى اليسرى والكتاب المقدس الذى كتب منذ ألف وخمسمائة عام أو أكثر بيدى اليمنى، وأحاول أن أجيب عن أسئلة الجريدة اليومية (العصر) من الكتب المقدسة، وذلك من خلال الكوبرى الموصل، وهو عقل المفسر المعاصر المستنير، الذى لا يغرق فى الماضى ويفرضه على الحاضر ولا يرى فى العصر بديلا عن الكتب المقدسة. أليس من واجب وزارة الثقافة والإعلام والأزهر والكنيسة ترميم الكبارى التى تهدمت؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved