فى حضرة الأكراد

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 25 نوفمبر 2012 - 8:15 ص بتوقيت القاهرة

بعد القليل من الصلوات والتبتل على الطريقة النقشبندية، واللطائف جميعها غارقة فى ذكر الله، اكتشفت أن كل السيدات الموجودات بالطابق الأعلى المخصص لهن بالمسجد التركى، هن من عائلة واحدة.. جئن، من كل حدب وصوب، إحياءً لذكرى جدتهن الكردية الأصل والتى توفيت منذ عامين.

 

يفرقن الصدقات على روحها الذكية، فتوزع إحدى الفتيات لفافات صغيرة من حبات اللوز المغطاة بالسكر، وتمر أخرى لتغرقك بماء الورد الذى تسكبه بين الكفين.. شعور بالراحة يعم المكان، مع ارتفاع صوت شيخ المسجد الرخيم، بعد صلاة العشاء، دون نشاز أو ترويع.. خشوع ليس بزائف، فالصوفية احتلت حيزا وافرا من حياة الأكراد، بل وتداخلت أحيانا مع تاريخهم السياسى الصاخب. ويقال إن الطريقة النقشبندية تحديدا قد ساهمت فى إبقاء المجتمع فى حالة من الجمود عن طريق ربط الأكراد بالثقافة العشيراتية ومبدأ الطاعة لشيوخهم، وإن هذه العلاقة الوثيقة بين الشيخ والمريد استغلت كأداة للقمع والفساد من قبل السلطات ولتسخير قيم المجتمع لمصالح فئة بعينها.

 

ويلاحظ البعض أيضا أن النقشبندية كانت تستخدم لملء الثغرات الأيديولوجية على مر ماضيها الطويل ولقمع ثورات الفلاحين الذين لم يفهموا فكرة القومية أو الوطنية، ولكن الهرمية التراتبية القبلية، مما جعلهم وقودا للمعارك ضد الحكومة المركزية وحتى فى الصراعات القبلية. ورغم سنوات من الاقتتال الداخلى وصعوبة تلك الحياة التى عرفها الأكراد ــ وأغلبهم كانوا يعيشون فى الريف ــ قبل تقسيم أراضيهم منذ عام 1925 على دول أربعة (العراق، سوريا، إيران، تركيا)، إلا أنهم يميلون فى أشعارهم وأدبياتهم لتمجيد حياة القرية على نمط «محلاها عيشة الفلاح» وكأنها الفردوس المفقود. حالة من الحنين العارم تقترب من وصف الشعراء الفلسطينيين للنكبة، فالقرية تحولت إلى كناية عن العصر الذهبى الذى مضى وانقضى، عصر البراءة الأولى.

 

●●●

 

مشهد السيدات الكرديات فى المسجد وهن يصلين على الجدة التى فقدنها، ملابسهن التقليدية المحتشمة، أغطية رؤوسهن الزاهية، كلها تفاصيل تدل على هوية القرية الكردية، فرقتهن الأيام لكن يظل الهندام نفسه يجمعهن. الآخر، المختلف أو المغاير، ارتبط بالنسبة لأكراد القرية بالمدينة التركية مثلا التى وصلوا إليها نازحين بالمئات والآلاف، كما تشير الباحثة الفرنسية فى الانثروبولوجيا كلامنس يوسُل، المتزوجة من كردى - تركى من مدينة أورفا. تصف الباحثة كيف ارتبطت المدينة فى الأشعار الكردية بالقبح والفساد والطفيلية والزحام، وكأنهم يقولون «مدينتكم جحر للثعالب والذئاب».

 

وفى المقابل يتم تمجيد القرية «النبيلة» والكادحين الذين عاشوا هناك فى سعادة، وكأننا فى حلم ليلة صيف ثار فيها الفلاحون وطردوا «الأغوات» المستغلين إلى المدينة، فيما يشبه الملحمة الغزلية. يقول الشاعر بركان براح فى قصيدة بعنوان «غيورون»: « فى الطفولة كان لدى قطط، تماما كأحلام الليالى الطويلة، ملونة وبراقة. فى الشباب كانت لدى حمائم ترفرف بأجنحتها نحو الحرية. كان لى قرية، رغدة، سعيدة، وأكثر حرية من نجوم الصيف». الشاعر الذى يكتب منذ السبعينيات تقريبا بدأ فى نشر أعماله باللغة الكردية فى تركيا مع مطلع القرن الحالى، إذ لم يكن مسموحا بنشر الأدب باللغة الكردية قبل فترة التسعينيات، الأمر الذى يذكرنا بسيرة كاتب ومناضل كردى آخر وهو الشاعر المتصوف، أحمد خانى (1709- 1651) الذى كان من أوائل من طالبوا باستخدام اللغة الكردية فى الأدب، بل وكتب بها ملحمته الشعرية «مم وزين» التى توجته كأكبر الشخصيات الأدبية تأثيرا فى تاريخ الكرد. ومن أشعاره: «الناسك فى معتكفه بذكر إلهه، والتاجر الجوال يسعى وراء ديناره، والعاشق المحب فى انتظار اللقاء، فالتعلم أن كل واحد بلا ريب مهتم بأمر نفسه»، فتصوف الخانى الذى يزوره الناس حتى الآن فى قبره ببايزيد (كردستان التركية) جعل أبطال ملحمته مم وزين يتزوجان ويعيشان فى الجنة، بعيدا عن بطش الحكام الذى فرق بينهما.

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved