الثقافة وتأثيرها على الذوق العام

جورج إسحق
جورج إسحق

آخر تحديث: الخميس 25 نوفمبر 2021 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

يجب أن نتوقف أمام ظاهرة تدنى السلوكيات. فالأزمة مع شاكوش وحمو بيكا، وغناؤهم لأغان ذات كلمات لا نفهم معناها، ذات لحن ردىء وصاخب ومزعج، وأصوات غير موهوبة، يستمع لها الصغار ويرددونها، ليس علاجها، أقصد الأزمة، بالمنع وفرض الوصاية.. ونتعرض فى نهاية سطور هذا المقال لما نراه من حلول.
●●●
جاءت أزمة فيلم «ريش» فى الجونة وخرج بعض الفنانين من العرض بسبب ما وصفوه بأن «الفيلم يسىء للدولة»، وأن الوطنية تفرض عليهم ألا يروا هذا الفيلم؛ على الرغم من أن الفيلم أخذ جائزة فى مهرجان «كان» فى فرنسا وكذلك جائزة فى «قرطاج»، وأخيرا فاز بالجائزة فى مهرجان الجونة. هذا الفيلم لا يسىء إلى مصر بأى حال من الأحوال ولكنه يعرض صورة لأحد الأسر الفقيرة، والفقر ليس فى مصر فقط ولكن فى جميع أنحاء العالم. وهنا نتساءل ما السبب وراء هذه الضجة وهذا الهجوم غير المسبوق على الفيلم؟!
هذه الضجة إما ناتجة عن عدم فهم للفيلم، أو المزايدة بالوطنية، أو تدنى ذوق الناس فى مجال السينما... ففى نفس الوقت الذى انتقد فيه فيلم «ريش» لم نسمع صوتا واحدا ينتقد هبوط مستوى الأفلام السينمائية الذى يؤثر بالسلب على الشباب، ويطرح أفكارا ضد القيم والأخلاق، أفلام يشيع فيها استخدام العنف والاتجاه إلى الانتقام وتحدى القوانين مثلما الحال فى مشهد لأحمد السقا على سبيل المثال وهو يقول «أنا الحكومة»، ناهيك عن أفلام محمد رمضان التى تدعو إلى العنف وتظهر المجرم على أنه بطلا وتنشر ثقافة لن تنفع الشعب المصرى خاصة فى هذا الوقت. لقد كنت أحلم بأن يكون محمد رمضان ممثلا موضوعيا مثل أحمد زكى، ولكن بعض تصرفاته قد لا تجعله نموذجا للشباب فى وقت تحاول فيه الدولة أن تكون دولة حديثة بثقافتها وأفلامها ورموزها.
وأخيرا ثارت الأقاويل حول فيلم عن كتاب لـ«جان بول سارتر». من الغريب أن سميحة أيوب لعبت بطولة مسرحية «المومس الفاضلة» فى ستينيات القرن الماضى واستقبلها الجمهور حينها استقبالا رائعا، واستمرت على مسرح الدولة لمدة ثلاثة أشهر. كان الجمهور وقتها يتمتع بدرجة كبيرة من الوعى والرقى والأخلاق ولم يعترض أحد على اسم المسرحية. إلا أننا اليوم فوجئنا بأن أعضاء فى مجلس النواب دخلوا على الخط من دون أن يعرفوا أو يقرأوا شيئا عن سارتر! فمن قام بالهجوم لم يقرأ لسارتر ولا يعرفه أصلا، وهذا يوضح مدى البؤس الثقافى والجهل.. نتمنى أن تتدخل وزارة الثقافة لمنع هذا الهراء.. فكل هذه الأسباب هى التى أدت بنا إلى هذا التردى الأخلاقى.
●●●
هناك الكثير من الحلول الجدية القائمة على الدراسات الموضوعية والمقدمة من علماء الاجتماع لرفع المستوى الثقافى والذوق العام فى مصر، وكثيرا ما طالبت فى مقالاتى وتعجبت من غياب دور علماء الاجتماع عن هذه القضايا المستحكمة.
أين الصفوة من مواجهة هذا الهراء؟ أين دورهم فى الإبداع والتجديد فى مجالات التصوير والباليه والموسيقى والأدب؟! وأين وزارة الثقافة من الحملات الثقافية التى بدأت بالفعل الآن فى أنحاء الجمهورية وخاصة فى الصعيد، ونطلب المزيد، لأن الصعيد أكثر الأماكن التى تنتشر فيها العنف، وما يعطى أملا أن الجيل الشاب فى الصعيد يتطلع إلى ثقافة جديدة. ومن تجربتى الخاصة أن الشباب الصغير فى الصعيد ملم بمعرفة الثقافة الحضارية، ويتمتع بنسبة قراءة عالية فى مختلف المجالات.. يجب أن نحتضن هؤلاء الشباب قبل أن ينغمسوا فى ثقافة مغيرة تدعو إلى العنف.
من أكثر الأماكن المناسبة لإحداث تغييرات فى الثقافة هى المؤسسة التعليمية؛ فبدلا من الإزعاج والهمجية التى تحدثها مكبرات الصوت فى الصباح وتزعج كل أهالى الحى، يجب التركيز على المواد التربوية التى تحض على رفع مستوى الذوق العام والاهتمام بالفنون المختلفة.
من ضمن الحلول المقترحة ما أطلقته «ماجى الحكيم»، خبيرة الإتيكيت، من مبادرة «كلك ذوق» لرفع الذوق العام وإحياء بعض السلوكيات المفتقدة كالشهامة والاعتذار والاستئذان والنظافة واحترام النظام وتعليم الناس كيفية التعامل مع بعضهم البعض، وكذلك مواجهة السلبية التى رأيناها عندما تخلت الجماهير عن الرجل الذى قام بقتله أحد أبناء الإسماعيلية ولم يدافع عنه أحد! وكذلك السلبية الشديدة فى حالة التحرش الجنسى بالفتيات.
●●●
نحن نعترف أن ليس هناك مجتمع بلا سلبيات، لكن تجار السينما يمجدون ظاهرة العنف من أجل تحقيق الربح التجارى السريع. وأصبح البلطجية والتافهون نجوما للمجتمع فى حين، كما ذكرنا، أن السينما فن جمالى يعمل على الارتقاء بالنفوس وتنوير العقول، أما تمجيد العنف فيؤدى إلى جرائم متعددة.
طلبنا مرارا من المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية عمل بحث حول هذه القضية الهامة ليرصد حالة الإجرام فى المجتمع واستخلاص النتائج؛ فمعدلات جرائم العنف كانت فى مستويات عادية ولكنها ارتفعت فى الآونة الأخيرة بشكل كبير وزادت وحشيتها، فى وقت زاد فيه التفاوت الطبقى الذى أدى إلى هبوط الطبقة الوسطى ــ التى كانت أساس التوازن فى المجتمع المصرى ــ إلى الطبقة الدنيا حيث الثقافة المتدنية.
كل هذه العوامل تتطلب منا نظرة واسعة لدرء هذا الخطر الذى أصبح سمة من سمات المجتمع فى مصر، والذى يرجع إلى عدة عوامل من أهمها ضيق الحال وارتفاع نسبة الفقر وتسييد فكرة الانتقام دون وعى لما قد ينتج عنه و«ضيق الخلق» بسبب الاحتياج والتصرف بلا عقلانية نتيجة الظروف الاقتصادية الطاحنة.
الارتقاء بالمستوى الثقافى فى المجالات المختلفة أصبح قضية حياتية تمس كل الطبقات فى المجتمع المصرى ولا تقتصر على طبقة واحدة فقط. ولذلك نحن فى انتظار المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية لنرى كيف سيتطرق إلى هذا الأمر لمحاولة درء الخطر عن المجتمع المصرى.. فهل يستجيب؟! وندعو جميع أفراد الشعب بالمشاركة فى هذا الأمر؛ من سياسيين ومثقفين وأصحاب رأى لمعالجة هذه المشكلة، لأن المشاركة أصبحت جزءا مهما جدا فى حل مشاكل الشعب المصرى وإتاحة الفرصة له حتى يشعر أنه شريك فى هذا الوطن، وشريك فى بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved