«نداهة المنيل».. جدل سطوة الحداثة
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 25 نوفمبر 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
هذه المجموعة القصصية مفاجأة بالنسبة لى، أولا لأنها تقدم لنا كاتبة تعرف الفن الذى تعالجه، وتمتلك مادة إنسانية متنوعة وملهمة، ولأنها ثانيا تختبر فى معظم حكاياتها جدل القديم والحداثة، وتضع شخصياتها فى قلب هذا الصراع، بأشكال وتنويعات مختلفة، وبنظرة تأمل عميقة.
«نداهة المنيل» الصادرة عن دار بيت الحكمة، لمؤلفتها تاميران محمود، تقدم أيضا ألوانا من الشخصيات الفريدة، وتركز بشكل خاص على نماذج نسائية رسمت بعناية وتعاطف، وتتصف بالقوة، بصرف النظر عن الطبقة، ودرجة التعليم، ومستوى المكانة الاجتماعية.
المرأة هنا ليست شبحا عابرا، ولا هى جملة اعتراضية، ولا مجرد كائن جميل يستخدمه الرجل، ولكنها عالم بأكمله، وحكاية تستحق أن تكتب، بل إن الحكواتى الرجل فى إحدى قصص المجموعة، يترك مقعده لحفيدة شهر زاد، لكى تعيد سرد التاريخ، من وجهة نظر نسائه المؤثرات.
فكرة الحداثة صعبة ومعقدة، لأنها لا تعنى فقط الآلات والأجهزة التكنولوجية ووسائل التواصل والانتقال، ولكنها تعنى كذلك القيم والسلوكيات والأفكار المصاحبة لهذه الأدوات المتقدمة.
القصص تعالج الزاويتين ببراعة، ولكنها تبدو متعاطفة ومنحازة للقديم، لأنه يرتبط بالبشر والأماكن والطقوس، ولأنه يعبر عن الذكريات، فتترجمها قصص كثيرة، فى صورة حية نابضة.
فى لحظة ما، يؤدى دخول الحداثة، والتغيير الشامل، إلى صدمة، لا تنتهى بالسقوط كما قد نتوقع، ولكنها تتحول إلى لحظة تنوير واكتشاف، وكأن هذا التغيير كان ضروريا لمعرفة الذات، وللخروج من الأزمة، ولمعرفة الحياة بشكل أفضل.
عندما يتحول بياع كرنب إلى موديل إعلانات للملابس الداخلية، وعندما يبكى مثل طفل صغير، لأنه لا يريد أن يتعرى، وعندما ترفض فتاة بائسة أن تؤجر رحمها، بعد أن شاهدت طفلين صنعا من بويضات باعتهما من قبل، وعندما يحتضن الفنان محمود سعيد، الموديل العارى نبوية، بعد أن اعتزلت الدعارة، وصارت زوجة وأما، وعندما يتحول المقهى الفقير إلى ساحة لمعارك الديوك الدموية، تصبح الشخصيات أمام قرار صعب، لأنه يتطلب مواجهة للذات، قبل مواجهة الآخرين.
لا شىء يبقى على حاله فى الحكايات، والكاتبة شديدة الحساسية فى رصد هذا التغير، وفى قراءة اتجاهاته، وفى حسم مواقف الشخصيات، فالصالة المكتظة بأفراد فى بيت بولاق الدكرور، تقف فى مقابل الكومباوند الجديد الذى انتقلت إليه الأسرة بعد الثراء، ولكن حضور الصالة يظل مهيمنا ومسيطرا، والطفلة التى انتزعت من أمها البديلة، تظل عازمة على صنع مربى السفرجل، وكأنه الخيط الوحيد الباقى من هذا الماضى المحفور، والموظفة الهاربة من صحراء مدينة نصر، ومن مدينة السادس من أكتوبر، تعود إلى ذكريات كورنيش المنيل، عنوان الصبر والحرية، وأستاذ مادة الجغرافيا، يعرف كيفية توصيل حكاياته، ويقدم مزيجا بين أسطورة الثور الحامل للكرة الأرضية، وأحدث أفلام محطة ناشيونال جيوجرافيك.
تصنع الحداثة توترا وزلزالا عنيفا فى بعض الأحيان، تقرب المسافات، وتجعل الرسائل متبادلة فى التو واللحظة، ولكنها لا تغير من المشاعر والأحاسيس، ولا يقلل من قوة الشخصيات النسائية، اللاتى يعرفن كيف يتخذن موقفا، أمام رجال أنانيين، أو غير مبالين، واللاتى يعرفن كيف يقرأن فنجان القهوة، مثلما يقرأن ما وراء الكلمات والسطور، ومثلما يكتشفن القبح وراء البدل الأنيقة.
علاقة المرأة بالرجل فى القصص لافتة، فى الغالب هناك حوار ضبابى أو مشوش، لاختلاف فى تركيبة الشخصيات، ما بين امرأة مرتبة تعيش عالم الأبيض والأسود، ورجل هو نقيض ذلك، وما بين امرأة عاشقة، ورجل عملى منغمس فى إنجازاته الوظيفية، ولكن نساء تاميران قادرات على كشف الفارق بين الحقيقة والادعاء، وقادرات على المحو والترك والهجر.
يمكن للمرأة أن تختار بين صديقة عرفت معها الجسد، وبين حياة جديدة، وأمومة دائمة، ويمكنها أن تواجه من يطاردها، فتصفه بغياب الكرامة، وبعدم الاحترام، ولكنها تستطيع أيضا بالمقابل أن تمنح فرصة أخرى، لاستعادة زوج، من علاقة قديمة غريبة، امتزجت فيها صورة الأنثى بصورة الأم، ويمكنها أن تصمد إلى حد معين، تحاول بعده أن تتحرر بالموت، مهما كانت نتائج هذه المحاولة.
تعرف بطلات الحكايات متى يقبلن؟ ومتى يرفضن؟ من الرجل الذى يستحق؟ ومن الذى لا يستحق؟
امرأة عاملة تكشف حجج الرجال فى التزويغ والتمارض، وتدير وظيفتها بكل حزم وذكاء معا، وامرأة بسيطة تفقد ابنها وهو فى غربته، ولكنها تصنع الأرز باللبن، وتحتل مكانة لا تزول فى الذاكرة، وامرأة أسطورية ترى حبيبها فى بئر بيت الكريتلية، ويجرفها الماء، قبل أن تتزوجه.
لحكايات النساء سحر خاص، وفى كثير من القصص هذا السحر، مع نفس درامى واضح، يحول الأفكار إلى أفعال متتالية، تغذيها التحولات الغريبة والعجيبة، وتنصهر فيها موروثات قديمة، وأفكار حديثة.
بسبب هذه النزعة الدرامية، يمكن أن تتحول بعض القصص بسهولة إلى أفلام روائية قصيرة، فقصص مثل «سلم خشب»، و«فى الصالة»، و«خالتى أم الفرحان»، و«فنجان قهوة»، و«سفرجل»، و«اللعبة x» و«بالبدلة الكستور»، حافلة بالشخصيات محددة المعالم، وبالمواقف والاختيارات الملتبسة، وبهذا الصراع الذى لا يمكن أن يحسم بسهولة، وكلها من العناصر الأساسية فى الدراما الجيدة.
ومثل أى كتابة ناضجة، فإن اللون الرمادى هو السائد، فالبشر كانوا وسيظلون كائنات معقدة، لا يعرفون كل شىء عن أنفسهم، ولا يمكن توقع تصرفاتهم إلا بالاختبارات والاختيارات، والصراع بين القديم والجديد هو قانون الحياة الدائم.
رغم حاجة البشر دوما إلى ما يجعل حياتهم أفضل وأيسر، وما يجعل معيشتهم أكثر راحة وأمانا، وما يجعلهم يحققون النجاح فى العمل والحياة العائلية، فإن هناك أشياء لا تقدر بالمال، ولا يمكن المقايضة عليها.
بكم يمكن المقايضة على طبق من الحلوى تقدمه أم حنون صابرة؟
وكم ثمن برطمان مربى معجونة بالمحبة؟
وكم يساوى بيت ضيق احتضن يوما جلسات الونس بين أفراد العائلة؟
هى حقا أشياء لا تباع ولا تُشترى.