أعود لأحكى عن باسم محسن

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 25 ديسمبر 2013 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

باسم محسن مات..

تغيبت عن موقعى هذا منذ خمسة شهور، وكانت آخر جملة كتبتها «المجد، المجد للشهداء»، وفى الشهور الخمسة سقط لنا شهداء جدد، أحدثهم ودعنا يوم الأحد: باسم محسن. شاب حلم بالعدل، وبالحياة الكريمة، لغيره ثم لنفسه، فمات. ترك أما مريضة ــ كالكثيرات من أمهات مصر ــ وأختا. وترك لنا سيرته، وسنارة بيضاء جديدة، لشهيد جديد.

هناك شريط فيديو، ترون فيه باسم يقول: «الشرطة، اللى كانت بتعمله، رجعت تعمله تانى.. روح المناطق العشوائية والمناطق القديمة دى، شوفها عايشة إزاى. شوفها كده عايشة إزاى. واحد مخلف عشرة ومش عارف يأكلهم. الشعب ده كله نازل، والشباب دى نازلة، والحريم دى نازلة، عشانهم: عشان هم يعيشوا»، الشريحة الاجتماعية واضحة فى الكلام، أكاد أرى رد فعل بعضكم الآن: «ما هو اللى مخلف عشرة ده هو اللى جايب البلد ورا!»، أكاد أستشعر استهجانكم لمفردة «الحريم» فى هذا السياق. ولكن باسم هو تسعين فى المائة من شباب مصر، وما أراه وأسمعه فى حديثه القصير هو وضوح رؤيته للمشكلة الأساسية (الناس مش عارفة تعيش)، وتحديده لأداة النظام القمعية (الشرطة)، وإيمانه بدافع الغيرية عند الشعب (نازل عشان هم يعيشوا). يعنى: نظام يحرم الناس من سبل العيش مستخدما أجهزته كأدوات قمع، وشعبٌ مُصِّرٌ على العيش، والعيش بكرامة. أليست هذه هى الثورة؟

هى الثورة التى لاحت أمام باسم أملا، فنزل إليها فى أيامها الأولى فى السويس، وهو ابن ١٩ سنة، عامل فى مصنع. نزل إلى الثورة فأحبها ولم يعد.

هناك صورة لباسم يرفع يده فى علامة النصر إلى جانب جدار من القيشانى الأبيض كتبت عليه ثمانية كلمات: «فى الشجاعة يكمن الأمل، عش حرا تمت حرا». وها هو باسم قتلوه فمات حرا.

التقرير المبدئى «طلقة رصاص حى فى الرأس أودت بحياته واخترقت الجمجمة»، فى بلده، السويس، يوم الجمعة ٢٠ ديسمبر. الأمن والإخوان اشتبكوا، وباسم مات. وباسم مش أمن ومش إخوان. باسم نزل لأن السويس بلده، ولأن عنده إحساس بالمسئولية، نحو بلده ونحو الناس ونحو الثورة.

لم «يشارك» باسم فى الثورة، الثورة دى كانت بتاعته، اشتغل لها، وضحى لها، وحاول بكل ما يملك دفعها للأمام، وكان دائم السؤال عليها، يطمئن عليها بالتليفون من الثوار فى المدن المختلفة فى البلاد.

فى شارع محمد محمود دفع عينه اليسرى ثمنا لها، ورضى ولم يقعد ولم يفقد الإيمان وظل موجودا فى قلب الحدث، فى مجلس الوزراء وما تلاه، إلى أن ذهب فى يوليو ٢٠١٢، ليتضامن مع مجموعة تم القبض عليها من شباب السويس، لتظاهرهم أمام المحافظة احتجاجا على أحداث العباسية فى ٤ مايو، فضربه ممثلو السلطة ضربا مبرحا، وله صورة وجانب وجهه الأيسر حيث العين المفقودة متورم بشكل مرعب، واحتجزوه، وحاكموه محاكمة عسكرية، بتهمة «سرقة خوذة ضابط». حكموا عليه بسنتين سجنا فحظى بتضامن كبير ونجح المحامون والنشطاء بعد فترة فى إسقاط الحكم فى الاستئناف.

خرج باسم ليستمر فى نضاله، الذى أصبح نضالا فى مواجهة الإخوان. نزل يوم «كشف حساب» محمد مرسى ومعه لافتة تقول «لن نعود قبل خروج الإخوان»، فسحله الإخوان فى شارع محمد محمود. ولما يئس من الرئيس المنتخب أسس لحركة تمرد فى بلده، السويس. وفى السويس، يوم الجمعة، قتله الأمن والإخوان.

ولم تسعفه منظومة مصر الصحية. المستشفى المحلى ليس به جراحة مخ وأعصاب، فى النقل للقاهرة نسى المسعفون أكياس الدم. فى قصر العينى الفرنساوى توافد الشباب متبرعين بالدم ودخل باسم فى جراحة ثم فى العناية المركزة ثم مات.

باسم محسن هو الأمل، أمل الشباب فى الحرية والعدالة والحياة الكريمة، يتلقى الضربات من الأمن، ويستمر، ويتلقى الضربات من الإخوان، ويستمر، يفقد عينه ويحاكم عسكريا ويحبس، ويستمر. ليس أمامه خيار سوى أن يستمر، لأن ثورته ثورة من أجل الحياة وبدونها ليست هناك حياة.

تغريدة تنعيه: ««الثائر.. المصاب.. المعتقل» وأخيرا الشهيد.. عمل كل حاجة تتعمل قدم كل تضحية يقدر عليها للثورة ومات!»

أخته، عند المشرحة يوم الاثنين تدعى: «يجعلك آخر الشهداء يا باسم»!

استشهاد باسم محسن هو استمراره فى الثورة. سيرته وسنارته فى نسيج الثورة الآن، وهما فى قلب مسيرة شباب هذا البلد إلى الكفاية والكرامة. كل شهيد جديد بيؤكد على حتمية الاستمرار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved