حكاية الآنسة «سايروس»

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 25 ديسمبر 2013 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

ظهرت فى الولايات المتحدة مطربة صغيرة السن تؤدى حركات غير مألوفة. معروف أن هذا النوع من الأداء قد يلفت انتباه مشاهدين فى صالة رقص أو حانة شرب أو شاشة تليفزيون أو حفل خاص. ولكن فى حالة المطربة «مايلى سايروس» فقد شد أداؤها انتباه الرأى العام الأمريكى، قبل أن ينتقل ليلفت انتباه الرأى العام فى أوروبا وأستراليا وأمريكا الجنوبية.

•••

لم يكن الأداء فى حد ذاته الدافع وراء اهتمام الرأى العام، بل كانت الحملة التى شنها وأدارها عدد من قادة سياسيين ورجال دين فى المجتمع الأمريكى، كلهم من كبار السن. هؤلاء لم يرق لهم، على امتداد السنوات الأخيرة، سلوك جيل الشباب وأداؤهم ليس فقط فى الرقص والغناء ولكن أيضا فى جميع مجالات الإبداع الفنى والثقافى. بمعنى آخر، كانت المطربة «مايلى» أداة التفجير لقضية أوسع لا تتصل بالإباحية أو الحرية الجنسية فحسب بل بمشكلات أصبحت تتصف بها العلاقات بين الأجيال فى معظم المجتمعات المعاصرة.

•••

الفجوات فى كل مكان تتسع. الفجوة فى الدخول تتسع، وفجوة التعليم تتسع، وفجوة الحاكم والمحكوم تتسع، وفجوة الشرق والغرب وفجوة الشمال والجنوب تتسعان، والفجوات بين الأعراق والطوائف والأقوام، كلها تتسع. اتسعت أيضا فجوة الأجيال. كان الظن الذى ساد قبل ثلاثة عقود أو أربعة أن ثورة الاتصالات، وبخاصة فى مجالات التواصل الاجتماعى، ستؤثر حتما فى فجوة الأجيال بالعمل على تضييقها. تفاءلنا عندما سمعنا عن سرعة انتشار الأساليب الإلكترونية الحديثة بين كبار السن، ولم يطل تفاؤلنا. إذ سرعان ما انتفض «المحافظون» فى جميع المجتمعات. انتفضوا باسم الدين والأخلاق، وباسم التقاليد وباسم الحكمة والتجربة، داعين لوقف «التحولات» الثورية التى حققها جيل الشباب بإبداعاته واجتهاداته فى قطاع التكنولوجيا ونواحى الثقافة والفن. ولا شك أنه فى حالات معروفة هددت هذه القفزات والتحولات سلطات وتقاليد وأعراف كان الظن أنها رواسخ لن يحركها بشر.

•••

ظهرت «مايلى» على شاشة قناة شبابية تحمل اسم «تليفزيون الجوع». كلاهما أراد قبول التحدى القادم من طرف المحافظين ضد ما يمثلانه. انطلقت «مايلى» ترد على الحملة بالهجوم على شخصيات مهيمنة على قطاع الأعمال فى أمريكا وبينهم من انتقد أداءها فى الرقص ومول الحملة ضدها. وصفتهم بأنهم بعيدون كل البعد عن نبض العصر وعن جيل الشباب. قالت إن المجلات والصحف الأمريكية كما الأفلام السينمائية محشوة بإشارات عديدة تحمل انتقادات إلى سلوك شباب هذه الأيام. إشارات تدل على وجود قناعات غير واقعية لدى هؤلاء الذين يكتبون عن الشباب، يكتبون بعقل وتفكير أشخاص أكبر أربعين عاما عن عمر لا يجوز أن يتجاوزه من يريد أن يكتب عن الشباب.

•••

تتساءل «مايلى»، وأشاركها التساؤل، عن كيف يمكن لرجل يجلس على مكتبه طوال اليوم وجانب من الليل، لا يخرج إلى مقهى شبابى ولا يسهر فى صالة شبابية، أن يمسك بالقلم ليكتب عن الشباب. بعض الذين انتقدوا أداء «مايلى» كتب عن رغبات زبائن فى الصالة التى تغنى وترقص فيها؟ كيف عرف هذا النفر من الكتاب عن رغبة هؤلاء الزبائن وهو لم يجلس معهم ليطلع على آرائهم ورغباتهم ويقيس حماستهم وانفعالاتهم؟ كيف يسمح كاتب محترم أن يضع نفسه مكان الشباب ويقرر بالنيابة عنهم أين يريدون قضاء سهراتهم ومع من وللاستمتاع بمن وبماذا؟ هؤلاء الكتاب الذين ينتقدون سلوك الشباب لم يسألوا أنفسهم يوما لماذا يتعمد الشباب الابتعاد عن أماكن يرتادها كبار السن من الجنسين ولا يقرأ ما يقرأون ولا يأكل ما يأكلون؟ هل سأل هذا الكاتب أو ذاك نفسه وقد تجاوز بلا شك مرحلة الشباب ودخل مرحلة أخرى لا علاقة لها بالشباب، «كيف أتجاسر وأكتب عن رغبات شاب ونواياه وقد مضى على آخر رغباتى الشابة أربعون عاما أو أكثر».

•••

غضب بعض كبار السن من التحدى الذى مارسته «مايلى»، وأخص بالذكر أحد كبار الكتاب اليهود، الذى خرج ليرد عليها ومثيلاتها من الشابات، قال إنه لا حق لهن فى توجيه اللوم لكبار السن، فهؤلاء حسب الثقافة اليهودية تحديدا يعتبرون مصادر عظيمة للحكمة والقدرة على منح المشورة. الإنسان فى سن الشباب لا يمكنه أن يكون حكيما، ليس فقط لأنه لا يحوز على الخبرة والتجربة ولكن أيضا لأنه لا يستطيع أن يقول لنفسه ورغباته كلمة لا. ينقل الكاتب اليهودى الكبير عن حكماء الأزمنة القديمة قولهم إن الإنسان يقضى النصف الثانى من حياته وهو يحاول استرداد ما فقده من لياقة ذهنية واحترام الذات نتيجة أخطاء ارتكبها خلال النصف الأول من حياته.

وكالعادة يلجأ كاتبنا اليهودى الكهل إلى عادة غربية وهى النقل عن أحبار اليهود وحكمائهم عبر التاريخ، فيشير إلى رأى شائع بينهم ينصح الإنسان المؤمن بأنه إذا قال له صغار السن إذهب وشيد المعبد فلا تستمع لهم ولا تنفذ. وإذا قال له كبار السن إذهب ودمر المعبد، فاسمع لهم ونفذ ما نصحوك به.

القاعدة عند هؤلاء القدامى وكثير من كبار السن فى أيامنا تقوم على أن ما يشيده الشباب يعادل التدمير، أما التدمير الذى يأمر به كبار السن فيعادل البناء. وأن ما يفعله شباب هذه الأيام هو من «عوادم» الحضارة الغربية، لا إبداع فيه ولا تجديد.

•••

فهمت من قراءة آراء بعض كبار السن من اليهود الذين تدخلوا لانتقاد أداء «مايلى سايروس» فى الرقص، أنهم غاضبون منها لأنهم يعتقدون أنها تجاوزت حدود اللياقة التى يفرضها الإيمان بالدين، حين استمرت تحمل اسم «سايروس» وهى تؤدى هذا الرقص غير المهذب. قالوا إنه غير جائز من وجهة النظر اليهودية الإساءة إلى اسم الإمبراطور الفارسى الذى دافع عن اليهود وأنقذهم من أسر بابل. كان يجب أن تغير اسمها قبل أن ترقص. ولكنها فعلت ما فعلت لأنها شابة لا تقدر المسئولية.

•••

ما أشبه حكماء اليهود والأقدمين بحكماء مصر المعاصرة. هؤلاء العائدون من حيث كانوا طوال السنوات الثلاث الماضية مزودين بكل مخزون حكمتهم وخبرتهم وشماتتهم، هدفهم الأول إقناع الشباب بالخروج نهائيا من ساحة السياسة، وإعلان التوبة عن كل ما فعلوا، والإقرار بخطئهم عندما ثاروا قبل أن يستشيروا أهل الحكمة والخبرة من كبار السن.

هدفهم الثانى، إبطال مفعول مرحلة أبدع فيها شباب مصر إبداعا منقطع النظير فى مجالات الثقافة الشعبية والحركة الشبابية وحب الوطن. أبدعوا أيضا فى وضع الأساس لمعبد جديد يحل محل المعبد المتهالك الذى خربه الكبار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved