الأزمة الوجودية للدبلوماسية المصرية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 25 ديسمبر 2016 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

أعرف الكثيرين من ممثلينا الدبلوماسيين. ربطتنى علاقات ود مع عدد من وزراء خارجيتنا السابقين وعلاقات صداقة ومحبة مع العديدين ممن تشرفوا بتمثيل مصر فى الخارج، بعضهم كان من زملائى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وآخرين درست لهم فى تلك الكلية أو فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما التقيت بسفرائنا فى عواصم العالم التى زرتها، ولا أنكر أن هؤلاء الذين عرفتهم يتمتعون بمستوى مهنى راق يدعو للفخر، ولا تشوب مواقفهم الوطنية أى شائبة، بل أذكر أنه على عهد مبارك كانت تجمعنى ببعضهم لقاءات ناقشنا فيها أوضاع مصر، وكانت انتقاداتهم لهذه الأوضاع لاذعة مما كان يدفعنى للتساؤل عما إذا كنت فى منزل سفير يمثل الحكومة المصرية أم كنت فى أحد الفروع الخارجية لحزب معارض شجاع فى مصر. ومع ذلك لا ينكر أحد أن سياستنا الخارجية غير موفقة فى تصديها للعديد من المشكلات. ألسنا نتصور، أو هكذا يقول إعلامنا إننا لا نحب إدارة أوباما، ولدينا مشاكل لم تحل مع روسيا، والاتحاد الأوروبى ينتقد أوضاع حقوق الإنسان لدينا، وبريطانيا ترفض قدوم سائحيها إلى مصر، والسعودية وقطر لا توافقان على مواقفنا، بل وتتخذ الأولى مواقف انتقامية من دولتنا، كما لم نصل إلى أى تسوية لخلافنا مع إثيوبيا، وإذا كان رئيس الوزراء التركى السابق أحمد داوود أوغلو قد عرف السياسة الخارجية الناجحة بأنها السياسة التى تواجه صفرا من المشكلات، فمن الواضح بحكم تعدد هذه المشكلات أن سياستنا الخارجية غير ناجحة. فما هى أسباب عدم نجاح سياستنا الخارجية؟


***
أول هذه الأسباب أن سياستنا الخارجية لا يصنعها دبلوماسيونا. المشتغلون بالسياسة الخارجية فى الدولة المصرية لا يقتصرون على وزارة الخارجية. هناك أولا رئاسة الجمهورية، وهناك المخابرات العامة، وعلى عهد الرئيس مبارك كان يوكل لبعض الوزراء المسئولية عن بعض الدول مثل ليبيا أو دول الخليج أو إسرائيل، بل إن لوزارة الداخلية دورا فى تشكيل مواقفنا من بعض الدول على أساس تصور أنها تساند الإرهاب، وموقفنا من إيران ظل محكوما بهذا التصور سنوات طويلة. وأظن أن ملف سد النهضة فى إثيوبيا كانت وزارة الرى هى التى تنفرد بإدارته. ولذلك لا يمكن أن نلوم دبلوماسيينا الأكفاء على هذه العثرات فى طريق سياستنا الخارجية، فقد لا يكون لهم دور فى صنع هذه السياسة فى كثير من الأحيان.

 

ولكن سببا آخر أكثر أهمية هو أن موقفنا من بعض الدول يقوم أحيانا على تصورات خاطئة عن سياسات هذه الدول أو أوهام حول ما يمكن أن نتوقعه من قادتها فى المستقبل. خذوا مثلا علاقتنا بإدارة أوباما فى الولايات المتحدة. نعم لديها تحفظات على أوضاع حقوق الإنسان فى مصر، وهذا أمر مفهوم لأن لدى الكثيرين من المصريين تحفظات على أوضاع حقوق الإنسان لدينا بما فى ذلك المجلس القومى لحقوق الإنسان الذى عينته الحكومة، كما أن لدى أسر الآلاف من المسجونين تحفظات، وهو ما وافق عليه رئيس الجمهورية الذى اختار لجنة للبحث فى أوضاع المسجونين الذين يستحقون إطلاق سراحهم، وقد يكون لدى الإدارة الأمريكية تصور حول العملية السياسية فى مصر التى يجب من وجهة نظرها أن تكون مفتوحة للجميع، وليس فى هذا تدخل فى شئون مصر الداخلية لأن قضايا حقوق الإنسان لم تعد شأنا داخليا ونحن قبلنا ذلك، لأننا وقعنا معاهدات دولية تلزم حكومتنا بأن تقدم تقارير عن أوضاع حقوق الإنسان فى بلدنا يناقشها دبلوماسيون من جميع دول العالم. ومع ذلك كله فهذه الإدارة تجنبت وصف ما جرى فى مصر فى الثالث من يوليو سنة 2013 بأنه انقلاب عسكرى، وواصلت تقديم المعونات العسكرية لقواتنا المسلحة، ولم تعترض على تقديم صندوق النقد الدولى معونة بمقدار اثتى عشر مليون دولار لمصر، ويتوافد على القاهرة كبار المسئولين العسكريين والاستخباريين الأمريكيين على فترات متقاربة، بل ويعد وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى صديقا لمصر، كما رفعت وزارة الخارجية الأمريكية مصر من قائمة الدول التى تحذر السياح من الذهاب إليها، وهو ما لم تفعله روسيا التى ينظر إليها إعلامنا باعتبارها دولة صديقة.


ومن ناحية أخرى قادتنا هم الوحيدون فى العالم الذين يعربون عن تفاؤلهم بمقدم دونالد ترامب للبيت الأبيض، على حين أن الرئيس الروسى نفسه، والذى أعرب ترامب عن استعداده للعمل معه، ينظر إلى ذلك بحذر، والأوروبيون والعرب والصينيون والمكسيكيون وقطاعات واسعة من الرأى العام الأمريكى تخشى من نتائج وصول هذا الملياردير الذى لا يدفع الضرائب لحكم أقوى دولة فى العالم. ومع ذلك يصور إعلامنا أن طريق العلاقات المصرية الأمريكية فى ظل إدارتها القادمة مفروش بالذهب، ووزير خارجيتنا يطالبها مقدما بزيادة المعونة العسكرية لمصر، وحكومتنا سعيدة بأن الرئيس الأمريكى القادم سيكون مشغولا بمحاربة الإرهاب، ولن يفتح فمه متحدثا عن حقوق الإنسان. بينما تشير تصريحات الرئيس المنتخب لعدائه للمسلمين الذين سيخضع من يريد منهم الذهاب للولايات المتحدة لتحقيق مكثف، وهو يطالب دول الخليج المتخوفة من زيادة النفوذ الإيرانى بأن تدفع تكلفة وجود القوات الأمريكية على أراضيها أو بالقرب من شواطئها، وكأن هذا الوجود فى حد ذاته لا يحقق مصلحة للولايات المتحدة، وليس مظهرا لنفوذها فى العالم، كما أن من اختارهم ليكونوا أعضاء حكومته أو مستشاريه أو ممثليه فى الخارج هم من المعروفين بتحيزهم لإسرائيل، وسياستها الاستيطانية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، والرئيس الأمريكى المنتخب لم يذكر الفلسطينيين بكلمة واحدة على كثرة تصريحاته وتغريداته. وفيما يتعلق بمصر تحديدا فلا نعرف من أين سيأتى بالأموال التى سيغدقها علينا وعجز ميزانية الولايات المتحدة هو من أضخم ما عرفته على امتداد تاريخها، ومن شأن وعوده بخفض الضرائب أن تزيد هذا العجز تفاقما.


***
وربما لو تأملنا أمر سياستنا الخارجية لاكتشفنا سببا أعمق لأزمتها، وهى أنها مثل سياستنا الداخلية هى سياسة بلا رؤية. فى زمن سابق كان دبلوماسيونا يعرفون عناصر رؤية سياستنا الخارجية. هناك الدوائر الثلاث التى تحدث عنها عبدالناصر فى فلسفة الثورة، وهناك قضية التضامن العربى، ومساندة حقوق الشعب الفلسطينى، ومكافحة الاستعمار، وتوثيق العلاقة مع دول العالم الثالث، وإقامة العلاقات الاقتصادية الدولية على أسس أكثر تكافؤ. ما هو فى الوقت الحاضر الهدف الذى تسعى إليه السياسة الخارجية المصرية؟ هل هو تحقيق المصلحة الوطنية؟ ما هى هذه المصلحة؟ هل نحن مصريون أم عرب أم من شعوب الجنوب؟ الرئيس يخاطبنا قائلا: «يا مصريين»، وهذا يعنى أن المصلحة المصرية هى التى لها الأولوية؟ ولكن ما هى عناصر هذه المصلحة فى سياستنا الخارجية؟ هل هى فى السلام الدافئ مع إسرائيل؟ أم فى الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطينى؟


وليس هناك ما هو أدل على التخبط فى مواقف سياستنا الخارجية بسبب عدم الوضوح فى تعريف مصلحتنا «القطرية» مما جرى فى مجلس الأمن يوم الجمعة الماضى. قدمت مصر باسم المجموعة العربية مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولى يرفض سياسة الاستيطان الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وهو مشروع قرار جرى الإعداد له منذ شهور داخل المجموعة العربية وبالتفاهم مع كل الدول الأعضاء فى مجلس الأمن بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وكان من المتوقع ألا تستخدم إدارة أوباما ضده حق الفيتو، ومن ثم يصدر كقرار من مجلس الأمن. طبعا هذا يدعو للفخر أن تستخدم مصر عضويتها فى مجلس الأمن للدفاع عن القضايا العربية ولفضح انتهاكات إسرائيل للحقوق الثابتة للشعب الفلسطينى. ولكن ما الذى جرى بعد ذلك؟. فوجىء كل أعضاء مجلس الأمن الأربع عشر الآخرين بأن مندوب الحكومة المصرية سحب القرار الذى كان قد تقدم به باسم المجموعة العربية ودون التشاور معها، وكان ذلك بعد اتصالات مع الرئيس السيسى من جانب دونالد ترمب الذى لم يتولَ بعد منصبه رئيسا للولايات المتحدة ورئيس الوزراء الإسرائيلى. ومع ذلك صدر القرار من مجلس الأمن برفض سياسة الاستيطان الإسرائيلية، ولكن حصل على شرف الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى أربع من الدول غير العربية هى نيوزيلاندا وماليزيا والسنغال وفنزويلا وبموافقة كل أعضاء مجلس الأمن الآخرين بما فيهم مصر وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وإلى جانب هذا التخبط الواضح فى مواقفنا خلال يوم واحد، هناك الموقف غير المهنى بسحب مشروع قدم باسم المجموعة العربية دون التشاور مع المجموعة التى قدم باسمها، وهناك التساؤل حول الدور العربى لمصر، وهل ندعى بعد ذلك أن لنا دورا بناء فى الدفاع عن الحقوق العربية؟ وكيف تتحدث حكومتنا مع السلطة الفلسطينية التى علقت آمالا على هذا القرار بينما لا تنصلح علاقتنا مع حماس؟.
***


مرة أخرى أشفق على أصدقائى من الدبلوماسيين المصريين الذين أعرف مهنيتهم وحسهم الوطنى الصحيح. أدرك تماما أن شئون السياسة الخارجية المصرية فى أدق قضاياها ليست بين أيديهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved