حراك عند حارة الناعمة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 25 ديسمبر 2019 - 11:10 م بتوقيت القاهرة

الطائرة لم تكن كما عودتنى أن تكون. المقاعد بدت غير مرحبة. المضيفات لسن كالمضيفات اللاتى عرفتهن خلال سنوات علاقتى بهذه الشركة. أرشدتنى إحداهن باهتمام متردد إلى مقعدى فى الصف الثالث. كانت الطائرة ما تزال تختال على أرض المطار ساحبة ذيلها عندما عثرت على سبب قلة اهتمام المضيفة بى وبركاب غيرى. تربصت لنظراتها أرصد هدفها. جلس فى الصف الثانى سيد وسيدة. السيد يلقى عظات على السيدة هامسا حتى لا أسمعه باعتبارى الراكب الأقرب لهما. سألت وعرفت. عرفت أن السيدة مطربة شهيرة والسيد مدير أعمالها. عرفت أيضا أن الرجال الأربعة الذين احتلوا الصفين الأول والثانى على الجانب الآخر من الطائرة خبراء مصارف، هم أيضا من المشاهير. خمنت أن السيدة لبنانية مشهورة كانت فى القاهرة لترتيب يتعلق بحفل رأس السنة. خمنت أيضا أن المصرفيين، وكلهم غاضبين، كانوا يبحثون فى مصر مع زملاء دوليين عن إجراء يؤجل نشوب أزمة مالية على وشك أن تضرب لبنان خلال أيام، أم لعلها ضربته بالفعل وما التقشف الذى لاحظت على مكونات الإفطار سوى مؤشر له مغزاه، فالطائرة تعود ملكيتها، كما تفضل العارفون وأبلغونى، إلى البنك المركزى اللبنانى الذى بدأ يعانى عجزا فاضحا نتيجة الحراك الناشب فى مختلف مناطق الدولة.
***
كثيرون فاتتهم فى حياتهم فرصة الاستمتاع بغرائب المظاهرات. لم أشارك فى واحدة منذ كنت طالبا بالمدرسة الثانوية ولكنى اتخذتها هواية. تابعتها فى الدول التى كانت حكوماتها تسمح لأصحاب المظالم بالتعبير عن مطالبهم بالتظاهر السلمى وتصادف وجودى فيها. الآن نعيش عصرها الذهبى. أتخيل أحيانا أنه ما من لحظة فى التاريخ تتشابه واللحظة الراهنة من حيث حجم الجماهير المتحركة. ففى كل اتجاه وفى أى بلد يقابلك حشد يتظاهر لمناسبة سعيدة أو يسد عليك طريقك حشد غاضب. وعلى صدارة الصفحات الأولى فى صحيفة الصباح ينتظرك خبر عن حشود بآلاف تتحرك صوب هذه الحدود أو تلك هربا من قمع أو سعيا وراء رزق. ما اختليت فى الأسابيع الأخيرة بشاشة تليفزيون إلا وشدتنى مظاهرة، هوايتى المفضلة. هذه مظاهرة ارتدى المتظاهرون لها صديريات صفراء ومشوا يجوبون الشوارع الأهم فى العاصمة الفرنسية، وهذه مظاهرة فى مدينة أعشقها والفقر دافعها وكان دائما مخيما عليها، سنتياجو الرقيقة الوديعة. وفى لاباز ومدن أخرى فى بوليفيا مظاهرات منذ أن قرر ائتلاف مصالح دولية معروفة انتهاز فرصة إجراء انتخابات رئاسية للإطاحة بالرئيس ايفو موراليس. وفى هونج كونج والجزائر مظاهرات تحدت بطول البقاء والاستمرار فهم الحكماء والمتخصصين. تفاعلت مع هذه المظاهرات وغيرها بالتعاطف مرة والفضول مرات لكن لا واحدة منها حركت فى ذهنى كل الفضول وكل التعاطف فى آن مثلما حركت مظاهرات لبنان.
***
وقفت على بعد أمتار أراقب وأسمع ثم جلست. كنت قبل عدة شهور فى لبنان أجلس فى نفس المكان. كان المنظر مختلفا. الوجوه كانت مكتئبة على غير عادة نزلاء هذا المكان وعادة اللبنانيين بشكل عام. تحدثت مع عدد غير محدود وزرت أصدقاء فى مكاتبهم القريبة وبعدها درت فى أنحاء الساحات قبل أن أعود إلى قلعتى ومساحة اطمئنانى فى رأس بيروت والحمرا تحديدا. هناك قابلت الصديق طلال سلمان مودعا على فنجان قهوة ومستسلما لسحابات لا تنتهى من دخان سجائره. أذكر أننى قلت له، وكان ابنه أحمد، القريب جدا إلى نفسى، حاضرا، «أغادر بيروت هذه المرة وحزن غريب يصر أن يرافقنى». لم أزد أو أتطرق إلى تفاصيل باستثناء إشارة عن أزمة فى لبنان أراها تتقدم بسرعة من على بُعد داكنة وخبيثة. لم أدر وقتها أى شكل سوف تأخذه. رأيتها من بعيد ولكن كانت أيضا على وجوه الناس فى المقهى القريب من الساحات وعلى رصيف الحمرا وعلى واجهات مغلقة لمحلات عرفتها لعشرات السنين لا تخلو من زبائن، أو وهو الأشد إيلاما ودافعا للحزن، على واجهات محلات لا تستحق شرف أن تكون بالحمرا، محلات حلت محل أخرى، وأرصفة غصت بالمتسولين والمنكوبين وذوى العاهات. لم أقل لهما أننى رأيت فى هذه الزيارة شعبا استسلم سياسيوه وتخاذلوا، وبعضهم لا يخفى اعتماده على متدخل أجنبى موثوق به لن يتخلى عنه إن وقع مكروه له أو لحزبه أو عائلته أو ممتلكاته المالية والعقارية. أغلبهم على كل حال خانوا عهدهم للطوائف التى يقودونها. بعضهم هرب إلى الخارج مال الدولة والطائفة.
***
وقع المكروه. انتفضت جماهير اللبنانيين ضد السياسيين. سيطر الفضول حاجبا عنى اهتمامات عادية ويومية ومهيمنا فلا حس أو خبر له أهمية باستثناء مظاهرات فى بيروت وعلى غير العادة فى مناطق لبنانية أخرى. تدافعت على ذهنى الأسئلة. سؤال يزيح سؤالا ولا إجابة جاهزة عندى على أى منهما أو غيرهما من الأسئلة المتدافعة. غريب أمرى. كنت هناك وتوقعت نشوب أزمة حكم ومجتمع ونظام فكيف وقد نشبت الأزمة، أقع ضحية فضول بلا حدود؟. لم أهنأ بلحظة هدوء واحدة على امتداد الأيام الأولى للثورة فى لبنان. لم أعتاد على ثورات تنشب فى عالمنا العربى وتستمر أياما بل أسابيع ويبقى ذهنى ملبدا بالحيرة، حيرة الباحث عن الحقيقة. لماذا لبنان استثناء؟. دأب السياسيون اللبنانيون على أن يظهر لبنان أمام الدول العربية كيانا متفردا ونبتا استثنائيا فى محيط عربى. أصروا منذ البدء أن يكون للبنان موقع خاص فى ميثاق جامعة الدول العربية، وفى مؤتمرات القمم الإسلامية، وفى العلاقات الإقليمية مع التكتلات الكبرى فى العالم. كل العرب تمسكوا برفض الطائفية واعتبروها تهديدا مباشرا لوحدة الدولة العربية المستقلة وحديثة النشأة، إلا ساسة لبنان. تغيرت قيادات جميع أحزاب لبنان ومكانتها فى خريطة المكانات والهيبات ولم يهتز صمودها المستميت فى الدفاع عن النظام الطائفى. صمد النظام الطائفى فى وجه إعصار القومية العربية حين لم تصمد أنظمة أخرى. صمد أيضا فى وجه عولمة ضربت هويات عديدة بل لعله اكتسب فى العولمة ومنها مناعة وقوة مضافة.
***
ساد الظن لفترة أن أهل الشيعة فى لبنان الذين تصدروا مسيرة العروبة فى سنوات صعودها وقادوا حملات دعم الفلسطينيين ومقاومة التوسع الإسرائيلى لن يتمسكوا بالنظام الطائفى واثقين من نسبتهم العددية ومن ضعف الطوائف الأخرى ومن شعبية حققوها على مستوى الإقليم العربى. أقول كان الظن. أقولها متعمدا منذ أن وجدت، وباندهاش كبير، أن سياسيين محسوبين على قيادة التيار الشيعى اللبنانى يتصرفون خلال الأيام الأولى للثورة اللبنانية تصرفات جعلت منهم موضوعا لسؤال من الأسئلة الصعبة التى أصابتنى بالحيرة وفرضت حالة الفضول. وصلنى من لبنان قبل السفر ما يفيد أن شعبية كان يحوز عليها قيادة هذا التيار تنحسر وبمعدل متزايد. بلغنى هذا الرأى أو المعلومة والثورة فى أيامها الأولى. بعد أيام أخرى، وكنت قد انتقلت بنفسى إلى هناك، رأيت كلمة الثورة فى الخطاب العام ومعسكرات الاعتصام وبين دعاتها وحاملى شعارتها تنحسر لصالح كلمة الحراك. الثورة تعنى أن التغيير يمكن أن يشمل فى عمقه وامتداداته جوهر العهد أما الحراك فيجعل التغيير مقصورا على شكل العهد فى مرحلته الراهنة.
***
طائرة العودة تكاد تخلو من الركاب. كان معى مصريون وأجانب ولا مشاهير بينهم. سمعت ليلة سفرى من بيروت من ينقل عن أجنبى أنه تلقى من سفارة بلاده نصيحة بالاستعداد للرحيل مع عائلته إذا تدهورت الأمور. الأمور، حسب رأى حكيم لبنانى، تتدهور فى ثلاث حالات. تتدهور فى حال لم تصل المعونة عاجلا من دول غربية وعربية وربما من دولة جوار بموافقة مكتومة من الولايات المتحدة، وتتدهور ثانيا فى حال استمرت القوة السياسية المهيمنة حاليا ترتكب أخطاء سياسية جوهرية خلال محاولتها إعادة تكييف الوضع السياسى بما يضمن لها استمرار الهيمنة. وتتدهور ثالثا فى حال تدخلت قوى غير شرعية من داخل الحدود أو من خارجها، تغتال وتزرع متفجرات وتنشر الرعب. وهذه حسب ظنى جاهزة للعمل فور إشارة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved