الشباب والاحتجاج إلى الرئاسة فى شيلى

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 25 ديسمبر 2021 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

شيلى واحدة من أبعد بلاد الدنيا عن مصر والعالم العربى. هى ليست فقط فى أمريكا الجنوبية بل تقع على ساحل المحيط الهادئ، على الجانب الأبعد عنا من قارتها. فيم الاهتمام إذن بالانتخابات الرئاسية فيها التى جرت يوم الأحد الماضى 19 ديسمبر؟ البعدُ جغرافى، ولكن القربَ فى السياسات وفى نتائجها موجودٌ معنا فى العالم العربى وفى العالم النامى عموما، بل وفى المتقدم أيضا.
شيلى هى واحدة من بلدين فى أمريكا الجنوبية، مع أوروجواى، عرفت حكما ديمقراطيا لفترة طويلة فى القرن العشرين امتدت من العشرينيات وحتى سنة 1973. فى سنة 1970، فى انتخابات ديمقراطية غير معروفة النتائج مسبقا، وكما درجت عليها لخمسة عقود، انتخبت شيلى رئيسا من حزبها الاشتراكى هو سلفادور أيّندى، حاول إدخال تغييرات هيكلية على النظام الاقتصادى والاجتماعى الشيلانى، ولكنه اصطدم فى أجواء الحرب الباردة المستعرة آنذاك بمقاومة الولايات المتحدة التى تحالفت معها الدوائر الاقتصادية الوطنية المقاومة للتغييرات. النتيجة كانت انقلابا عسكريا فى سبتمبر 1973، تلته فترة انتهاكات منظمة لحريات الشيلانيين وحقوقهم وحكم عسكرى عنيف شديد الوطأة عليهم. على الرغم من بشاعة الحكم العسكرى للجنرال أوجوستو بينوشيه، قائد الانقلاب، فهى وإن كانت جديدة على شيلى فإنها لم تكن كذلك بالنسبة لأمريكا اللاتينية أو العالم. ما كان جديدا هو التوجه الاقتصادى لحكم الجنرال بينوشيه والنتائج الاجتماعية التى خلفها وتراكمت حتى أضفت إلى انفجار اجتماعى فى 2019ــ2020 وإلى انتخاب جابرييل بوريتش، المرشح اليسارى ذى الخمسة وثلاثين عاما، رئيسا للجمهورية يوم الأحد الماضى.
لإضفاء شرعية على حكمه، استفتى الجنرال بينوشيه فى سنة 1988 الشعب على بقائه رئيسا للبلاد لعشر سنوات أخرى. رفض الشعب، ما استدعى إجراء انتخابات رئاسية فى العام التالى. فى هذه الانتخابات، فاز مرشح المعارضة، ومنذ ذلك اليوم تناوب مرشحو الحزب الديمقراطى المسيحى والحزب الاشتراكى على الرئاسة حتى حلّ الرئيس الحالى فيها. ما يهمنا هو الإطار الدستورى الذى نشأ فى ظله نظام اقتصادى اجتماعى رسخ عدم المساواة وأنشأ حرمانا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لدى القطاعات الأوسع من الشيلانيين، على الرغم من التقدم المحرز فى المؤشرات الاجتماعية الجمعية.
قصة إضفاء الشرعية على الحكم الذى نشأ عن انقلاب سبتمبر سنة 1973، وعلى السياسات الاقتصادية التى اتبعها فى السنوات التالية عليه، كانت قد بدأت فى سنة 1980. التأريخ للسياسات النيوليبرالية فى الاقتصاد، بما فيها من تخفيض للإنفاق العام وتحرير للتجارة الخارجية وتفكيك للضوابط وخصخصة، بعبارة أخرى من فرض سيادة السوق، عادةً ما يبدأ بوصول مارجريت تاتشر إلى الحكم فى بريطانيا فى سنة 1979، يليها رونالد ريجان فى الولايات المتحدة فى سنة 1981. حقيقة الأمر هى أن تطبيق هذه السياسات بدأ قبل ذلك فى شيلى فى النصف الثانى من سبعينيات القرن العشرين على أيادى من أطلق عليهم «صبية شيكاجو»، تلاميذ الأستاذ الأمريكى ميلتون فريدمان، داعية السياسات النيوليبرالية، فى جامعة شيكاجو. فى سنة 1980 صاغ الحكم العسكرى دستورا كرّس السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وأراد تثبيتها بشكل لم يرد له مثيل من قبله ولا من بعده، ما لم يكن لدى أساتذة القانون الدستورى رأى آخر. نص دستور سنة 1980 على الولاية الاحتياطية للدولة، بمعنى أن الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للشعب تتولى المبادرة الخاصة الاستجابة لها، ولا تتدخل الدولة إلا إذا عجزت هذه المبادرة عن، أو لم ترغب فى، الاستجابة لهذه الاحتياجات. فى دستور الدولة إذن، دور الدولة احتياطى، أما الدور الرئيسى فهو للمبادرة الخاصة، أو بعبارة أخرى للسوق. فى الثلاثين سنة المنقضية منذ انتهاء حكم الجنرال بينوشيه، على الرغم من محاولات بذلها رؤساء متعاقبون، وقفت هذه الولاية الاحتياطية عقبة فى سبيل اتخاذ سياسات اجتماعية فعالة وعميقة الأثر.
نتائج استفتاء سنة 1988، ثم الانتخابات الرئاسية فى 1989 وكل أربع سنوات بعدها، جعلت شيلى تقطع شوطا لا بأس به فى إعادة توزيع السلطة السياسية، ولكنها لم تمس الأسس التى تستند إليها السياسات الاقتصادية. نتائج ذلك انعكست فى حياة الناس وفى اللامساواة بينهم.
اللامساواة، وهى أخطر ما يهدد أى بلد، تجلت فى أنه، حسب البنك الدولى، شيلى هى ثانى دولة فى معدل اللامساواة بين كل الدول الأعضاء فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية الثمانية والثلاثين، بعد المكسيك. اللامساواة فى الدخول أدت إلى لامساواة اجتماعية تمثلت فى تباينات تعليمية زاعقة فيما بين الطبقات القادرة والفقيرة، وهى انعكست كذلك فى تمييز فى أماكن السكن أضاف إلى صعوبة الاندماج الاجتماعى بين الفئات والطبقات، بما فى ذلك مجموعات السكان الأصليين. سيادة السوق وعدم تدخل الدولة فرضا فى سنة 1980 تفكيك نظام الضمان الاجتماعى المتقدم فى شيلى، والقائم فيها لمدة خمسين عاما، واستبدال خصخصة التأمينات الاجتماعية به وهو ما أدى إلى تلاشى التأمينات الاجتماعية لمواجهة الشيخوخة والمرض والبطالة والإصابات المهنية وغيرها عن الشيلانيين وإلى انكشافهم. هذا وارتفاع تكاليف المعيشة، التى جعلت من شيلى ثانى أكثر دول أمريكا الجنوبية غلاء، وصلا بمستوى المديونية فى شيلى إلى 74 فى المائة من الدخل المتاح فى سنة 2018، وفقا لبيانات البنك المركزى هناك، وأديا إلى أن 4,6 مليون فرد يمثلون 34 فى المائة من السكان فوق سن الثامنة عشرة كانوا قد تخلفوا عن تسديد مديونياتهم فى سنة 2019.
•••
فى هذه الأجواء وقع الانفجار الاجتماعى. بعد احتجاجات متكررة واسعة النطاق على السياسة التعليمية، كان آخرها فى أبريل سنة 2018 ضد حكومة الرئيس الحالى، أشعل الانفجار الاجتماعى فى أكتوبر سنة 2019 رفع سعر تذكرة النقل العام فى العاصمة سنتياجو بنسبة تقل عن أربعة فى المائة. نزل الناس إلى الشوارع وتصادموا مع قوات الأمن، وسرعان ما عمت الاحتجاجات مدن البلاد كلها، وسقط فوق الثلاثين من القتلى والآلاف من الجرحى، وأعلن حظر التجول فى العاصمة. توسع موضوع الاحتجاجات من سعر تذكرة النقل العام إلى التعليم ومجمل الأوضاع الاجتماعية، حتى طالب المحتجون بدستور جديد محل ذلك الذى عدوه سببا فى التفاوت الاجتماعى وفى حرمانهم. فى أبريل سنة 2021، وافق الشيلانيون فى استفاء على تعديل الدستور، وفى الشهر التالى انتخبوا جمعية تأسيسية لم يحصل فيها معارضو تغيير الدستور وأحكامه إلا على أقل من ثلث مقاعد الجمعية، ما يجعلهم غير قادرين على الوقوف فى وجه الأحكام الجذرية التى تريد الأغلبية إدراجها فى الدستور الجديد، خاصة ما يتعلق منها بالدور الواجب على الدولة الاضطلاع به للنهوض بالضعفاء وتحقيق العدالة. بعد الانتهاء من حكم بينوشيه فى سنة 1989، الشروع فى صياغة دستور جديد كان الخطوة الثانية على طريق التخلص من إرث هذا الحكم.
•••
الخطوة الثالثة هى انتخاب بوريتش، مرشح تآلف اليسار، للرئاسة بأعلى نسبة للأصوات حصل عليها مرشح رئاسى فى تاريخ شيلى وهى 55,8 فى المائة فى مقابل 44,1 فى المائة حصل عليها مرشح اليمين. وسط حماس أنصاره ليلة انتخابه حذر بوريتش من أن أسباب الانفجار الاجتماعى لسنة 2019 ما زالت قائمة واعتبر أن التنمية الاقتصادية الشيلانية هشةٌ ذات قدمين من صلصال لأنها لا تصل إلى الأكثر احتياجا. وهو وعد بنظام للتأمين الصحى لا يميز بين الأغنياء والفقراء، وبمعاشات تقاعدية لائقة، وهاجم خصخصة التأمينات الاجتماعية ووعد بنظام عام ومستقل للضمان الاجتماعى لا يهدف إلى الربح كما تهدف المؤسسات الخاصة التى تدير صناديق المعاشات التقاعدية.
لم يجادل أحد فى فوز بوريتش ولكن عددا من المعلقين اعتبر أن الحكم سيجعله أكثر واقعية عند العمل على تحقيق ما وعد به أثناء الحملة الانتخابية وليلة انتخابه. الواقعية سيكون مصدرها أولا أن الكونجرس تتعادل فيه كفتا اليسار واليمين، وثانيا ردود أفعال السوق ودوائر الأعمال التى لا يمكن تجاهلها. هذا كلام عاقل ومعقول يجدر الاعتداد به. ومع ذلك، فإنه يبدو أن بوريتش يقف على أرضية صلبة، هو الذى يصل إلى الحكم بعد خطوات تراكمية ثلاث، ستتبعها خطوة رابعة حاسمة وهى الانتهاء من صياغة الدستور الجديد ثم اعتماده. الجمعية التأسيسية ذات الأغلبية المؤيدة لدستور ذى توجه اقتصادى واجتماعى تقدمى ستزداد حماسةً وسيشجعها وصول بوريتش إلى موقع الرئاسة.
•••
تبقى ملاحظتان. الأولى تهمنا فى العالم العربى وهى أن بوريتش نصير واضح للقضية الفلسطينية لا يجفل عن التعبير عن تأييده لحقوق الشعب الفلسطينى. الثانية أكثر عمومية، وإن كانت تخصنا فى العالم العربى أيضا. بتذكيره بالانفجار الاجتماعى لسنة 2019، فإنه يمكن اعتبار أن انتخاب بوريتش نتاج لهذا الانفجار أو ثمرة له. معلقون كثيرون، بما فى ذلك فى شيلى نفسها، نظروا إلى هذا الانفجار الاجتماعى، الذى افتقر إلى القادة، على أنه جزء من احتجاجات اجتماعية شبيهة شملت العالم فى 2018 و2019، ما بين السترات الصفراء فى فرنسا، إلى الحراك فى الجزائر، إلى الاحتجاجات فى بويرتو ريكو ولبنان والعراق، إلى الثورة فى السودان. احتجاجات حركها الشباب الغاضب ضد حكومات اعتبرها لا تعتد بمطالبه، استخدم فى تنظيمها وسائط التواصل الاجتماعى وغيرها من الوسائط الحديثة. موضوعات الاحتجاج ووسائطه تحيلنا إلى حركات بداية العقد فى تونس ومصر وإسبانيا والولايات المتحدة نفسها وغيرها.
السياسات النيوليبرالية أدت إلى عولمة التفاوتات والفجوات بين الدول وفى داخل كل دولة.
ولكنها، بفعل الجدلية، أدت أيضا إلى عولمة الاحتجاج عليها ومظاهره وأدواته.
يبدو منطقيا أن يجىء يوم تلتقى فيه هذه المظاهر، وتتصل الأدوات.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved