عراة ومنبطحون

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأربعاء 26 يناير 2011 - 9:33 ص بتوقيت القاهرة

 بالقنبلة التى فجرتها قناة الجزيرة مساء يوم الأحد الماضى (٢٣-١) استحق شهر يناير الذى بدأت به العشرون الثانية من القرن الجديد أن يوصف بأنه شهر المفاجآت الصاعقة. ومن المبكر الآن أن نطلق هذا الوصف على العام الجديد، لكن القدر الثابت أن جرعة المفاجآت التى توالت هذا الشهر ستكون لها تداعياتها وأصداؤها على مدار العام.

فقد بدأ الشهر ــ والعام ــ بتفجيرات الإسكندرية التى راح ضحيتها 23 شخصا. وبعدها بأيام قليلة حسمت مسألة انفصال جنوب السودان عن شماله، وإن كانت شهادة ميلاد الدولة الجديدة لم تحرر بعد. ولم نكد نخرج من أجواء الانفصال حتى انفجرت الثورة الشعبية فى تونس، التى خطفت الأبصار، ولايزال رنينها يدوى فى الفضاء العربى. ونحن مشدودو الأبصار إلى تونس، فجرت قناة الجزيرة قنبلتها التى أصابتنا جميعا بالدوار، وألقت بنا فى بحر الحيرة والدهشة.


فنحن لم نكن نحسن الظن بالمفاوضين الفلسطينيين حقا، ولدينا ما لا حصر له من علامات الاستفهام والتعجب حول أداء السلطة فى رام الله، وتعاونها الأمنى مع الإسرائيليين ضد المقاومة الفلسطينية، لكننى واحد ممن لم يخطر لهم على بال أن تصدر عنهم أمثال تلك المواقف التى سجلتها محاضر جلسات المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية، والتى بثتها قناة الجزيرة هذا الأسبوع.


كانت عيننا على تونس تتابع ثورتها، وعيننا الأخرى على لبنان تلاحق تفاعلات بركانها الموشك على الانفجار، فإذا بوثائق الجزيرة تهبط علينا كصاعقة من السماء، فتلهينا على هذا وذاك، مستدعية معها عديدا من الأسئلة الملتهبة والمتفجرة. وقبل أى حديث عن المضمون فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان سؤال حول مدى صحة هذه الوثائق ومدى دقة المعلومات الخطيرة التى أوردتها. وقد حاولت أن أتحرى إجابة السؤال منذ شرعت القناة فى بثها مساء الأحد الماضى. وفهمت من الذين رجعت إليهم أنها فى حوزة الجزيرة منذ شهر أغسطس الماضى، وأنها منذ ذلك الحين خضعت لعمليات فحص وتدقيق من جانب مجموعة من الخبراء والمختصين، الذين كان من بينهم أوروبيون وأمريكيون وثيقى الصلة بهذه العملية. وقد ظل هؤلاء يعملون طوال أكثر من أربعة أشهر، وخلصوا فى نهاية المطاف إلى أن المحاضر أصلية وأنه لا أثر لأى تدخل أو تلاعب فيها.

علمت أيضا أن بعض المعلومات التى يمكن أن تهدد أناسا معينين حجبت فى الوقت الراهن، حيث ارتأى مسئولو وحدة الشفافية بالقناة أن ذلك الحجب لا يؤثر على دفة المحاضر ولا جوهر المناقشات التى جرت.

هى المرة الأولى التى يتسرب فيها هذا الكم من الوثائق (1600) عن المفاوضات العربية الإسرائيلية، الأمر الذى أتاح لنا أن نتعرف على ما يجرى فى الغرفات المغلقة، والذى كان يقال لنا دائما إن السياسيين العرب يقولون فى تلك الغرفات كلاما، فى حين يخاطبون الرأى العام بكلام آخر، وهو ما تؤيده وتؤكده محاضر الجلسات التى أذيعت، والتى بدا فيها المفاوض الفلسطينى ليس عاريا فحسب، وإنما منبطح بصورة فاضحة وصاعقة. ذلك أن الحوارات التى جرت كشفت عن أن المفاوض الفلسطينى لم تكن لديه أى خطوط حمراء. إذ أبدى استعدادا مذهلا ومروعا للتنازل عن القدس الشرقية وعن حق العودة وعن الحدود. بل أبدى استعدادا مماثلا للتعاون مع الإسرائيليين فى قتل الفلسطينيين المقاومين (إذا كان هذا هو التعاون فكيف يكون التواطؤ إذن؟).

من الملاحظات المهمة على الوثائق أنها كشفت لنا عن أن الطرف الفلسطينى هو الذى يعرض التنازلات واحدا تلو الآخر، فى حين أن المفاوض الإسرائيلى يكتفى بتسجيل النقاط لحسابه وحصد الثمار. وحين يكون الأمر كذلك فإن مثل ذلك المفاوض الفلسطينى يصبح الوحيد المؤهل لتصفية القضية وإغلاق ملفها. وهو ما يفسر لنا الطروحات الإسرائيلية التى تتمحور حول إمكانات الحل النهائى. ذلك أن إسرائيل لن تجد مفاوضا يستجيب لطلباتها ويؤمنها أنسب من القيادة الراهنة، التى على رأسها السيد محمود عباس (أبومازن). وليس ذلك مجرد استنتاج، لأن الأمريكيين ما برحوا يذكرون فى كل مناسبة ــ وهذا ثابت فى المحاضر السرية ــ على أن أبومازن هو الوحيد الذى يريدون التفاوض معه. وإذا أردنا أن نترجم هذا الكلام فهو يعنى أن أبومازن هو القيادى الفلسطينى الوحيد الذى من خلال موقعه كرئيس للسلطة يمكن أن «يؤمن» على تصفية القضية الفلسطينية.

هذه الخلفية تستدعى ملفا آخر مسكوتا عليه، يتصل بملابسات اغتيال الرئيس ياسر عرفات فى عام 2004، والإتيان بالسيد محمود عباس بسرعة ليصبح خلفا له، ويواصل مع الإسرائيليين مسيرة «السلام». وهو السيناريو الذى تشير الوثائق إلى أن تتابع وقائعه لم يكن من قبيل المصادفات. ولكنه كان ترتيبا جهنميا نلمس نتائجه بوضوح فى محاضر الجلسات المسربة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved