مهرجان الكريب

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 26 يناير 2019 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

رغم الحجاب الأبيض الذي غطى رؤوسهن إلا أن أنهن لم يستطعن الوقوف على الحياد أمام موسيقى المهرجانات. حطني الله من علٍ بين جيران جدد هم عجبة العجب. في الحال أخرجت نظارتي من غمدها ونهضت لأسترق البصر من الشباك، حتى أفهم سر الجلبة التي عمت الشارع منذ الصباح الباكر. عشرات الفتيات، اللائي خرجن للتو من الامتحان أو في طريقهن إليه، وقفن أمام محل الكريب الذي فتح في الجوار قبل عدة أشهر. كريب غريب بعض الشيء، لا يمت بصلة لما قد تأكله في بلاده، أضيفت إليه التحابيش والخلطات التي عادة لا تتوافق معه وبعض مخلفات الطعام، فأصبح مرغوبا جدا من الطلاب المراهقين الذين جاءوا من المدارس القريبة، وأحيانا تسربوا منها، ليقفوا أمام المحل الصاخب الذي لا تنخفض موسيقاه سوى قرب الفجر، في كثير من الأحيان.
في البداية كان الزبائن من الصبيان بالأساس، ثم تجرأت الفتيات وانضممن إلى هواة أكل الكريب والتجمع على الأرصفة. لفتت نظري حركات الرقص الماهرة لبنت خمرية اللون، يتعدى طولها المائة سنتيمترا بقليل، وعلى ظهرها حقيبة زهرية اللون، جعلتها مميزة وسط الأخريات من ذوات الزي الأبيض الموحد. تتلوى الأجساد على إيقاعات الموسيقى التي تعطي الرقص روحا مختلفة، لا تفرق بين صبي وفتاة إلى حد كبير. تتغير تعبيرات الوجه تحت وقع تشنجات تلقائية مرحة تتبع هذا "المهرجان" أو ذاك، فمعظم ما يستمع إليه باعة المحل هو من نوع الإلكترو شعبي الذي ذاع صيته. وأكتشف كل يوم أحدث ما ينتجه نجومه من أغنيات بفضل المحل الذي لا يغلق أبدا تقريبا، بما أنه لا مواعيد محددة للمحال التجارية ولا رادع لمن يحرم النوم على سكان الأحياء التي ابتلاها الله بمثل هذه الأنشطة، دون رقابة.
***
أتأمل الأولاد وساعات وجودهم في الشارع التي تمتد إلى بعد منتصف الليل بكثير، حتى في فترات الامتحانات. أتعجب من موقف الأهالي التي لا تعترض- على ما يبدو- على وجود أبنائهم على الأرصفة في الصقيع وتحت أي ظرف. أستغرب أيضا من طريقة التخاطب وأسلوب الحوار المرصع بالألفاظ النابية. صراخ لا نفهم منه هل هم يتنازعون أم يتسامرون، فالخناق والمزاح يتشابهان ويختلطان، ولا نكاد نميز الفارق بينهما. خرجت أغاني المهرجانات من المناطق العشوائية والأفراح الشعبية وغزت الفضاء العام، وليس لدي شيء ضدها، بل على العكس هي من إفراز مجتمع يجب علينا دراسته لنفهم لماذا لا يشعر هؤلاء الشباب بالملل من كثرة التسكع على الأرصفة؟ كيف يديرون وقتهم وحياتهم اليومية؟ ما هي طبيعة علاقتهم بذويهم؟ كيف يرون مستقبلهم؟ يقينا هم لا يعرفون أين تقع أفغانستان ولا ما هو تاريخها، لكن هم مادة خام يمكن تصديرها في جميع الاتجاهات لما تتمتع به من جهل، فما تأثير هذه الكميات من الكريب المغشوش الذي أدمنوه؟ لماذا لجأ بعض المدرسين الخصوصيين لموسيقى المهرجانات في تدريس المناهج مؤخرا؟ وهل يجب معاقبتهم كما حدث أم هي وسيلة فعالة للتواصل مع الجيل الجديد بلغته؟ وهل هذه لغته بالفعل؟ هل يعترضون أو يثورون على الواقع بشكل احتفالي راقص؟ هل هنالك ما يربط بين ظاهرة التسكع في مصر وظاهرة "الحيطيست" في المغرب العربي وخاصة الجزائر، و"الحيطيست" هم هؤلاء العاطلين عن العمل الذين يلتزمون بالوقوف مستندين على الحائط ليلا ونهارا؟ ربما يشتركون في متابعة الحياة وهي تمر أمام أعينهم دون فعل شيء أو في يأس يدفعهم إلى عدم الرغبة في فعل شيء. يعزلون أنفسهم داخل ملابسهم ويراقبون ما حولهم وكأنهم يدربون أنفسهم منذ وقت مبكر على عدم المبالاة.
***
إجمالي عدد التلاميذ على مستوى الجمهورية بلغ 20 مليونا و642 ألف تلميذ، بعد سنوات قليلة سيكبرون على أغنية "شحط محط"، باعتبار أن حريتهم الشخصية لا تقف عند حد معين، فهي مسألة سهلة وبسيطة: لا تسألني عما أفعل كي لا أسألك عما تفعل من وراء ظهري.
يختلط صراخ هؤلاء التلاميذ بأصوات باعة الخضروات والفطير الفلاحي وهدير السيارات، والجيران باسمين ينامون ملء جفونهم، لا أحد يعترض، حتى لو لم يعجبهم الوضع، وكأن التفاؤل واجب قومي، بما أنهم من أبناء هذه المنطقة. أعرف أن التفاؤل ضروري في مثل هذه الحالات، لكن أريد أن أنام في هذه اللحظة، وإلا انفجر رأسي. لا أستطيع أن أفتح عيني، ولا أن أخرج من تحت الغطاء الساخن، لكي أوبخ آكلي الكريب الذين يجيدون فن اللامبالاة وقد فهموا مبكرا أن عدم الاكتراث نعمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved