حوار عربى حول مصر ــــ الثورة: الكل ينتظرها.. وهى بحاجة إلى الوقت

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 26 فبراير 2014 - 5:45 ص بتوقيت القاهرة

تلاقوا بالمصادفة فى بيروت: ثلاثة من عرب المشرق، بينهم سورى وعراقى ويمنى، فى ضيافة صديق مشترك لهم من لبنان. وبغير تمهيد باشر كل منهم يبث شكواه إلى الآخرين، بينما مضيفهم اللبنانى مأخوذ بمتابعة أخبار التفجير الأخير الذى ضرب مركزا ثقافيا يجاور مدرسة لأطفال الأيتام.

قال السورى: إنه آتٍ إلى بيروت لعله يعرف فيها ومنها آخر أخبار مأساة بلاده بتفاصيلها المأساوية الدامية وأبعادها السياسية، وأنه كان يأمل «أن تتقدم مصر بثورة الميدان فيها لنجدتنا، عبر عودتها ــ ولو تدريجيا ــ إلى دورها الذى لا غنى عنه».

قال العراقى: كنا نشفق عليكم فى سوريا كشعب شقيق وكبلد جار.. أصارحك أننا الآن مشغولون عنكم بمأساتنا. إذ كلما داوينا جرحا فى ارض الرافدين سالت جراح جديدة. إن مسيرة الجنائز الجماعية تكاد لا تتوقف.. ومثلكم أسعدتنا ثورة الميدان فى مصر وتوقعنا منها الخير ومازلنا نتوقع أن تعود، ولو تدريجيا، إلى دورها الجامع. إن مجرد وجود مصر معافاة سيدخل الاطمئنان إلى نفوسنا حول غدنا.

قال اليمنى: وماذا عنا نحن؟ إن دولتنا ما كانت لتقوم لولا مصر.. وها هى دولتنا طرية العود مهددة بالتفكك والعودة إلى ما قبل وحدتها، بل وما قبل ثورتها، سلطنات ومشيخات وإمام من خارج العصر. وطبيعى أننا نفتقد مصر وإننا ننتظر أن تساعدنا، مرة أخرى، فتحمينا من المتدخلين فى شئوننا وكل منهم له غرض ونحن ضحية خلافاتنا التى توسع لهؤلاء، على اختلافهم فيما بينهم، مساحة التدخل.

التفت الثلاثة إلى مضيفهم اللبنانى فقال: ونحن مثلكم ننظر إلى مصر كضمانة لوحدتنا الوطنية خصوصا أن سوريا غارقة فى دمها وهى بحاجة إلى من ينقذها.. وربما كانت مصر وحدها التى تحظى بإجماع لبنانى على دورها، فهى ابعد من أن تكون لها مطامع أو أغراض، وهى قريبة بحيث تطمئن الجميع.

•••

دار النقاش على مدى ساعتين، وكان حيويا وصادقا.. وقد جاء ضيف مصرى فدخل «ميدان» الحوار محاولا تهدئة الحماسة باستذكار وقائع الصعوبة. قال: إن مصر التى نتحدث عنها بعد ثلاثة ميادين أسطورية بحقائقها مبدلة التاريخ، وثورتين باهرتين أسقطتا الظلم بالقمع والتعتيم بإطفاء نور الدين بالتعصب الجاهلى، هى غير مصر التى عرفتموها نوارة ومصدرا للتنوير، فوارة بالثورة ومصدر دعم للثوار فى كل ارض. هى مصر التى تحاول الآن استعادة روحها ليمكنها العودة إلى دورها، وهى مصر التى تجتهد الآن للتعرف إلى ذاتها قبل محيطها. إنها مصر أخرى، لا هى مصر الخمسينيات ولا مصر السبعينيات، لا هى مصر كامب ديفيد وان كانت لا تزال عالقة فيه أسيرة، ولا هى مصر الميدان وإن كان ما زال مفتوحا بإرادة التغيير. لا هى مصر جمال عبدالناصر وإن كان طيفه ما زال يغمرها بالأمل، ولا هى مصر الإخوان الذين حاولوا إطفاء الشمس.

نبر العراقى بشىء من المكابرة: مع ذلك فمجرد تقدم مصر وعودتها إلى ذاتها يمنحنا الأمل.

قال الضيف المصرى: ولكنها آتية من البعيد البعيد، زمنا وتبدلا، فقد غربت عن روحها، وغربت عن دورها، وغربت عن محيطها الذى ضربته غربة أخرى فتاة حتى الغرق فى بحر من دماء أهله، بعدما وجد من يفرط بها رخيصة ووجد من يشتريها بالأسود من الذهب فى الفتنة التى توظف الآن لحماية العروش من ميادين الغضب والثورة لاستعادة كرامة الإنسان. ويُخطئ من يتوقع أن تعود مصر إلى دورها الذى لا بديل منه غدا أو بعد شهر أو سنة. إنها الآن غارقة فى همومها.. ولسوف تكون مشغولة عنكم زمنا طويلا. فهى سوف تتصدى لكتابة التاريخ من جديد وهذه مهمة قاسية وبطيئة ومكلفة. ستكون حربا مفتوحة مع وقائع صلبة أرستها عهود التغرب عن الذات والالتحاق بالآخر لقوته وضعفها، والشعور بالمهانة والرغبة بالتعويض السريع عما ضاع مع الخوف من المغامرة.

وأضاف الضيف المصرى يقول بمزيج من المرارة والتمسك بالأمل:

يخطئ من يفترض أن انتصار الميدان فى معركة إسقاط الطغيان سيبدل الواقع الذى فجر الثورة بمجرد إحالة النظام العجوز إلى التقاعد وإسقاط النظام البديل الذى زور هويته مخادعا حتى إذا ما تمكن كشف عن مشروعه الانقلابى الذى من شأنه أن يخرج مصر من ذاتها، من دورها، ثم يخرج بها على أمتها. كل ما فى مصر مهدم أو آيل للسقوط: فى إدارة الدولة والقطاع العام، فى الاقتصاد، فى التعليم، فى الزراعة، فى الأمن.. والحمد لله أن شرط حياة النظام القديم الساقط كانت تفرض عليه الحرص على الجيش وإلا لكان أصابه من التخريب والتهديم ما أصاب سائر مؤسسات الدولة التى تتبدى الآن خربة خاوية على عروشها. حتى فى أبأس أيام العهد الملكى كانت مصر أفضل حالا منها فى أزهى أيام العهد الجمهورى فى الأربعين سنة الأخيرة، والذى لا علاقة له بالنظام الجمهورى المعروف فى الدنيا، بل هو أقرب إلى نظام ملكى مشلول. ولقد أنهكت مصر، عبر الميدان، بحكم الفرد الواحد العاجز الذى أوصلته المصادفات إلى سدة الرئاسة فصّغر مصر لتغدو بحجمه بعدما عجز عن الكبر ليغدو لائقا برئاستها. صحيح أن الأكثرية الساحقة من المصريين قد تلاقت على رفض الدكتاتورية عسكرية أو دينية، وإنها نزلت بالملايين إلى الميدان، أكثر من مرة، لكنها لم تكن موحدة فى أهدافها، محددة فى مطالبها.

قال السوري: نعرف بتجربتنا المرة أن نزول الجماهير بغير خطة عمل ومنهج لا يمكن أن يحقق الثورة بأهدافها الموعودة. إنها قوة معطلة. هى فرق وأشتات يجمعها رفض القائم بالأمر ثم يفرقها غياب التنظيم الموحد، أو الجبهة الموحدة ذات البرنامج الواضح والمحدد. ولكن الإنجاز الأعظم لثورة مصر أنها أسقطت الحكم بالشعار الدينى.

قال اليمنى: تدل تجربتنا فى اليمن أن الأكثرية الساحقة قد تتلاقى على رفض الدكتاتورية عسكرية أو دينية.. لكن هذه الأكثرية ليست كتلة صماء، بل أن فيها تيارات متعددة، واتجاهات مختلفة، بعضها عتيق والأصح أنه معتق يعيش فى ماضيه، وبعضها مستحدث استولد على عجل، والبعض الثالث خليط من بواق من عهود سابقة مع وجاهات كان لها وجودها فى مختلف العهود لأن طبيعتها التحاقية، وهذه تجربتنا فى اليمن خير شاهد. لقد ذهب زمن الإجماع المُصنع. ثمة آراء مختلفة ووجهات نظر متباينة، والخطر أن يضيع الوقت الذى هو من ذهب فى صراع عبثى بين رفاق السلاح، عسكريين ومدنيين.

قال المضيف اللبنانى: علينا نحن العرب خارج مصر أن نصبر عليها، وهى تجتاز حقول الألغام فى طريق العودة إلى ذاتها والينا.

•••

وانتهى الحوار إلى خلاصة محددة:

إن أمام الحكم باسم الثورة فى مصر مهمات شاقة ومصاعب جمة، فى الداخل، وفى المحيط العربى، وعلى الصعيد الدولى. وسيكون عليه أن يعيد النظر فى تركة الماضى، وهى ثقيلة جدا، بكل ما ترتبه من التزامات تجاه الخارج البعيد، الغرب بالقيادة الأمريكية، والغرب الثانى بالقيادة الإسرائيلية، والأنظمة العربية الموزعة بينهما، والمتربصة بالثورة فى مصر تحاول استرهان قرارها بالذهب أو خنقها بالحصار الناعم. ولسوف تكون مصر فى المدى المنظور، مشغولة بهمومها الثقيلة فى الداخل، وقد يفيد الخارج من هذا الانشغال لكى يحاصرها «بعربه» ومعهم إسرائيل، محاولا استغلال الاضطراب فى الداخل والحاجة إلى التمويل للنهوض وإعادة الروح إلى الدولة العميقة.

مع ذلك فقد انتهى الحوار بعودة الجميع إلى «الحتمية التاريخية»: لابد من مصر لأى تغيير نحو الأفضل فى سائر البلاد العربية، فمصر تجمع ولا تفرق.. ولا نستطيع تصور غد عربى أفضل من دون مصر، وهى بالتأكيد آتية لتصنع مستقبل أهلها، وهو مدخل المستقبل الأفضل للعرب جميعا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved