التعليم في عصر الثورة الصناعية الرابعة

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأحد 26 فبراير 2023 - 10:11 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب خالد صلاح -أستاذ بكلية التربية جامعة الأسكندرية- تناول فيه ضرورة التركيز على تعليم الأطفال المهارات الحياتية– مثل التفكير النقدى والتواصل والابتكار ــ بجانب التقنية والابتعاد عن منهجية حشو العقول بالمعلومات، مشيرا إلى أنه بالرغم من القدرات الهائلة لدى الذكاء الاصطناعى إلا أنه يعجز عن تعلم بعض المهارات البشرية مثل الذكاء العاطفى والابتكار، لذا من المنطقى أن يسلِّح الأفراد أنفسهم بهذه المهارات إن أرادوا الاستمرار كجزء مهم ومطلوبٍ فى سوق العمل مستقبلا، والتمييز بين المعلومة الصحيحة والمغلوطة فى عالم يعج بالمعلومات... نعرض من المقال ما يلى:

واجَهت البشريّةُ طفراتٍ غير مسبوقة. فكيف عسانا نستعدّ ونُعِدّ أولادنا لعالَمٍ يعجّ بتلك التحوّلات غير المسبوقة والشكوك المتعمّقة؟ سيبلغ مولود اليوم نحو الثلاثين من عمره بحلول العام 2050، وإذا سارت الأمور على ما يرام، فسيكون هذا الطفل على قَيد الحياة فى العام 2100، فما الذى يجب أن نعلِّمه لهذا الطفل لنعينه على البقاء والازدهار فى عالَم 2050 أو ما بعده؟ وما نَوع المهارات التى سيحتاجها هؤلاء الأطفال كى يحصلوا على وظيفة، ويفهموا ما يدور حولهم، ويسيروا على هدىً فى متاهات الحياة؟

يرى الخبراء أنّ المزيد من التغييرات تلوح فى الأُفق، كما تشير الدراسات إلى تحوُّل عالَم الأعمال بوتيرةٍ ثابتة لم يشهدها العالَم من قَبل، وذلك بفضل التطوُّرات الهائلة فى التكنولوجيا التى ستحلّ محلّ المهارات والبراعة البشريّة المُعتادة، ومواجهة مجموعة من السيناريوهات التى تسيطر فيه الأتْمَتَة على عالَم الأعمال، واحتمال استحواذ الأتْمَتَة أو الذكاء الاصطناعى على جوانب كبيرة من القوى العاملة الحاليّة، لتمحو مجموعاتٍ كاملة من المِهن وتجعل العديد من الوظائف من الماضى.

ولأنّ عجلةَ الثورة الصناعيّة الرّابعة بكلّ تجلّياتها تدور بشكلٍ متسارع، كان لا بدّ من التيقُّظ لها، ومواكبتها، أو حتّى اتّخاذ خطواتٍ استباقيّة، لجهة الإعداد والتأهيل والتحديث، للاستفادة ممّا تقدّمه من مزايا تخدم منظومة العمل بشكلٍ خاص، وتُساعد الشعوب والحكومات على التقدُّم والتحضُّر، وتقديم خدماتٍ أفضل، ترفع من مستويات إسعاد الناس، وتسهِّل حياتهم.

هناك بعض المهارات التى لا يستطيع الذكاء الاصطناعى والروبوتات الحصول عليها (حتّى هذه اللّحظة). فلا يزال البشر متميّزين فى المهارات البشريّة ذات القيمة العالية، مثل القيادة، والإبداع، والذكاء العاطفى والأحكام التقديريّة ونقْل المعرفة، وسيظلّون متميّزين فى هذه الجوانب حتّى مع استحواذ الذكاء الاصطناعى وعِلم الروبوتات على الكثير من جوانب حياتنا. فهذه هى المهارات التى سيبحث عنها أصحابُ العمل فى مستقبلٍ ليس ببعيد فى مجال العمل، ومن ثمّ فمن المنطقى أن يسلِّح الأفرادُ أنفسَهم بهذه المهارات إن أرادوا الاستمرار كجزءٍ مهمٍّ ومطلوبٍ فى القوى العاملة فى المستقبل.

وسوف تخلق الثورةُ الصناعيّة الرّابعة مجالاتٍ جديدة للعمل، مرتبطة بتقنيّاتها مثل تحليل البيانات الكبيرة، وأسواق التطبيقات والويب، وإنترنت الأشياء، وتقنيّة التعلُّم الآلى، والحَوسبة السحابيّة، والتجارة الرقميّة، وتكنولوجيا الواقع المعزّز، وتقنيّات التشفير، وتقنيّة الموادّ الجديدة، والبلوك تشين، والطباعة ثلاثيّة الأبعاد، والروبوتات الثابتة، وتقنيّات التكنولوجيا الحيويّة، والروبوتات البشريّة.. وغير ذلك من المجالات الواعدة التى تتطلَّب بدورها مهارات، وتحتاج إلى إيجاد مهنٍ ووظائف جديدة فى سوق العمل.
• • •

الحقيقة أنّ البشر لا يستطيعون التنبّؤ بالمستقبل بدقّةٍ، فليس لدينا أدنى فكرة الآن كيف ستبدو الصين أو باقى بلاد العالَم فى العام 2050، كما أنّنا لا نعرف ماذا سيفعل الناس كى يكسبوا قوت يومهم فى المستقبل، ولا نعرف كيف ستعمل الجيوش أو الأنظمة البيروقراطيّة، ولا نعرف كيف ستكون العلاقات بين الجنسَيْن. ربّما سيعيش بعض الناس حياةً أطول بكثير ممّا يعيش الناس الآن، وقد يَشهد الجسم البشرى نفسه طفرةً غير مسبوقة بفضل الهندسة الحيويّة ووسائل الاتّصال المباشر ما بين الدماغ البشرى والحاسوب. ومن المرجَّح بحلول العام 2050 أن يكون كثير ممّا يتعلّمه أولادنا اليوم عديم الصلة بالواقع العلمى.

تُركِّز مدارس كثيرة جدّا فى الوقت الحالى على حشو أمخاخ الأطفال بالمعلومات. كان هذا مفيدا فى الماضى لأنّ المعلومات كانت شحيحة، وعلى النقيض من ذلك، أصبحنا فى القرن الحادى والعشرين مغمورين بكميّاتٍ هائلة من المعلومات، فإذا كان الفردُ يمتلك هاتفا ذكيّا فسيكون بإمكانه قضاء فترات طويلة عديدة من عمره وهو يُطالع ويكيبيديا وحسب، أو يشاهد مُحاضرات تيد TED التقنيّة. وكلّه يعتمد على نقرة زرّ، ولكن ثمّة معلوماتٍ متناقضة كثيرة لدرجة تجعل من الصعب معرفة ما يُمكن تصديقه، كما أنّ هناك أشياء أخرى لا تحصى تجعل التركيز أمرا صعبا.

فى عالَمٍ كهذا، تكون المعلومات آخر ما يحتاجه المعلِّم لتقديمه لتلاميذه، فهُم مُتخمون بكمٍّ هائل منها بالفعل. وبدلا من الحصول على المعلومات، يحتاج الناس إلى الاستفادة منها، وإلى التمييز بين المهمّ وغير المهمّ، لكنّ الأهمّ من هذا وذاك هو تجميع كلّ هذه المعلومات المتفرّقة لتكوين صورة كبرى للعالَم.

لقد افترضت تلك المدارس أنّه طالما أعطينا الطلّابَ الكثير من المعلومات والقليل من الحريّة، فسيرسمون صورتهم الخاصّة بالعالَم، وحتّى لو فشل هذا الجيل فى التأليف بين جميع البيانات فى حكايةٍ متناسقة وذات مغزىً عن العالَم، فسيكون هناك متّسعٌ من الوقت لعمل توليفةٍ أفضل منها فى المستقبل.

لقد نفدَ منّا الوقت، وستُشكِّل القراراتُ التى نتّخذها خلال العقود القليلة القادمة مستقبلَ الحياة نفسها، ولا يسعنا أن نتّخذ هذه القرارات إلّا بناءً على رؤيتنا الحاليّة للعالَم. فإذا ما افتقر الجيلُ الحالى إلى رؤيةٍ شاملة للكون، سيتحدَّد مستقبل العالَم بشكلٍ عشوائى.

بالإضافة إلى المعلومات، تركِّز معظم المدارس بشكلٍ مُبالغٍ فيه على تزويد الطلّاب بمجموعةٍ من المهارات المحدَّدة مسبقا، مثل حلّ المعادلات التفاضليّة، وكتابة شفرة الحاسوب بلغةC++، والتعرُّف إلى الموادّ الكيميائيّة فى أنابيب الاختبار، أو التحدُّث باللّغة الصينيّة. ولكن، بما أنّنا لا ندرى كيف سيبدو العالَم وسوق العمل عام 2050، فإنّنا لا نعرف حقّا ما المهارات الخاصّة التى سيحتاج الناسُ إليها.
• • •

يكمن الحلّ فى «تمكين الطفل فى عصر الثورة الصناعيّة الرّابعة» ليتفاعل مع فكرٍ وقيَمٍ ومهاراتٍ كونيّة فى حضارة جديدة تحيط بنا، ليتحقَّق بذلك شعار «عقل جديد.. لإنسانٍ جديد.. فى مُجتمع جديد».

ويرى كثير من الخبراء التربويّين أنّ المدارس يجب أن تتحوَّل إلى تعليم (المهارات الأربع) المتمثّلة فى التفكير النقدى، والتواصُل، والتعاوُن، والابتكار. ويؤمن هؤلاء الخبراء بأنّ المدارس يجب أن تُقلِّل من المهارات التقنيّة وتركِّز على المهارات الحياتيّة ذات الأغراض العامّة. والأهمّ من ذلك كلّه هو القدرة على التعامل مع التغيير، وتعلُّم أشياء جديدة، والحفاظ على التوازُن العقلى فى المواقف غير المألوفة. ولمُواكَبة عالَم 2050، لا بدّ أن تفعل ما هو أكثر من مجرّد ابتكار أفكار أو منتجات جديدة، لا بدّ أن تُعيد اختراع نفسكَ مرارا وتكرارا قبل أى شىء. وهناك حاجة إلى إعداد الطفل وتنمية قدرته على التعامل مع مهارات الثورة الصناعيّة الرّابعة من خلال:

1ــ تعليم الطفل، فى المراحل الأولى للتعليم، المهارات التكنولوجيّة الأساسيّة، وكيفيّة التعامُل مع شبكة الإنترنت، وتمكينه من الرقْمَنة؛ فالطفل الرقمى هو الطفل الذى يملك ذكاء الرقْمنة، ويُجيد استخدام التقنيّة، ويقوم على إتقانها وتطوير مهارته فيها.

2ــ الكشف عن الأطفال الموهوبين رقميّا وتعهّدهم بالرعاية والاهتمام من خلال الأسرة أو المؤسّسات التعليميّة.

3ــ دمْج مهارات الثورة الصناعيّة الرّابعة فى المناهج وتطوير ودعْم المَوارد التدريسيّة، والحاجة إلى تغيير طُرق التدريس مع مزيدٍ من التركيز على المنهجيّات المُستنِدة إلى المشروعات أو حلّ المشكلات أو المنهجيّات المتمحورة حول التلميذ، استخدام المواقف التعليميّة والحياتيّة لتنمية مهارات الطفل.

4ــ الاهتمام بالطفل الرقمى وأنماط تعلُّمه، حيث صارت الأجهزة الذكيّة وسيلةً مهمّةً فى تعليم الطفل. ولكى نحقِّق استفادة أطفالنا من هذه الأجهزة واستخدامها بشكلٍ مناسب، والحفاظ على خصوصيّته وسلامته، يجب أن يتعلَّم كيفيّة استعمالها بعقلانيّة وتقنين، فالطفل الذى يمتلك مهارةً فى استخدام الأجهزة الذكيّة يكون أكثر قدرة وتطوُّرا فى التعامُل مع برمجيّات هذه الأجهزة مستقبلا، فهى تمكِّن الطفل من تعلُّمها ذاتيّا.

5ــ استخدام الأجهزة الذكيّة والبرامج والتطبيقات فى تعليم الطفل، وتقديم المادّة بصورة شائقة تقود الطفل خطوة بخطوة نحو إتقان التعلُّم، ويمكن استعمالها داخل الفصل من خلال المعلِّم/ المعلِّمة، بوصفها أداة تعزيز، أو خارج الفصل، بوصفها أداةً للتعلُّم الذاتى.

6ــ تطوير البيئة التعليميّة المحيطة بالطفل، من خلال الأنشطة المدرسيّة المختلفة لتعلُّم المهارات الحياتيّة كالقدرة على اتّخاذ القرار والثّبات الانفعالى، وتنظيم الوقت وإدارته، والتعاون، والنقد، والإبداع، وغيرها من المهارات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved