فى الذكرى السابعة لرحيل الفتـى الأسمر

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 27 مارس 2012 - 9:19 ص بتوقيت القاهرة

فى حياة النجم الكبير أدوار متعددة جسدها وأتقنها ببراعة وهى بمثابة عمليات فدائية لقيمة قضاياها وقيمة آرائها وجرأة طرحها فى وقت كانت أفلام السينما المصرية التى ترصد موضوعات سياسية أو أمنية تطرح نفسها على استحياء، بل وتحت غطاء من الرمزية، بينما جاءت بعض شخصيات أحمد زكى أو عملياته الفدائية على الشاشة. لتشكل سينما خاصة صورتها أكثر وضوحا وصوتها أكثر صراحة.. ومشاهدها كشفت مستورا وعوارا أمنيا وسياسيا. وفى السطور التالية.. نكشف الستار عن ثلاثة مشاهد هى ثلاث عمليات فدائية فى رحلة الفتى الأسمر فى ذكرى مرور سبع سنوات على رحيله.. وهى كانت ومازالت شاهدة على عصور.. وكانت ومازالت أسئلتها تنتظر إجابات.

 

 

 

1- البرىء

 

العملية الأولى كانت عام 1986، كان مشهد النهاية الحقيقية فى فيلم «البرىء» هو مسرح الأحداث، صحراء أحد معكسرات الأمن المركزى.. ونرى الجندى المجند أحمد سبع الليل ـ أحمد زكى ـ وهو يصعد برج الخدمة وينظر من النافذة التى تشبه شباك السجن، وينظر إلى الناس وهو ملقى على الأرض.. ينادى أحمد على زميله دسوقى لكى يناوله الناى، ويرن جرس التليفون فى مكتب مأمور وحدة السجن «محمود عبدالعزيز» ليقول: تمام سعادتك، وهنا نكتشف وصول فوج جديد من المقبوض عليهم بتهم سياسية، يركب مأمور السجن حصانه، وحوله رجاله فى انتظار سيارة الترحيلات إلى السجن.. وفجأة نرى أحمد زكى أو أحمد سبع الليل فى مشهد عالى الأداء يسرح فى أعماقه ويمسك بالرشاش ويطلق رصاصاته على جميع جنود وضباط السجن والمأمور.. ويقضى عليهم جميعا.. ثم يلقى بالرشاش على الأرض وينظر إلى الجميع بعين مليئة بالتشفى والانتقام فى عين يقظة للقضاء على الخديعة والكذب والإيهام الذى ملأه بأن هؤلاء المساجين هم أعداء الوطن.. ويمسك سبع الليل بالناى ويعزف، وتتجول الكاميرا على موسيقى حزينة رائعة لعمار الشريعى، والكاميرا متجولة على كل جسد أحمد سبع الليل.. ثم نرى طلقة من جندى تقتل أحمد سبع الليل.. يحاول أن يتماسك بلا جدوى، ويقع الناى فوق الرشاش.

 

إنها النهاية المؤلمة لقصة موجعة وأداء جرىء.. كان المشهد وبطله بل والفيلم كله بمثابة عملية فدائية انتحارية، لأنها كشفت زيف المسئولين من السجون بإقناع جنودهم بأنهم عندما يقتلون السجناء فهم يعملون لصالح الوطن، وبأن كل سجناء الرأى هم أعداء الوطن.

 

 

 

2- المهم

 

شقة هشام ضابط أمن الدولة كانت مسرحا لهذه العملية الإبداعية الجريئة فى شتاء 1988.

 

المقدم هشام ـ أحمد زكى ـ المحال على المعاش بالأمر المباشر يجلس على الأرض ويشعل سيجارته وأمامه منى زوجته ـ ميرفت أمين ـ وهى تصرخ فى وجهه «ضاعت أجمل سنين عمرى واتبهدلت» وتمسك بالجريدة وتقرأ بصوت عالٍ: «وقالت محكمة أمن الدولة فى حيثياتها إن ما تؤمن به وما يطمئن إليها وجدانها أن الأحداث الجسام التى وقعت يوم 17/18 يناير كان أسبابها المباشرة هو إصدار القرارات برفع الأسعار، وهذا التلاحم الزمنى بين إعلان القرارات واندفاع الجماهير ينفى تماما احتمالات التحريض أو الإثارة أو ركوب الموجة الآن».. وهنا يقاطعها هشام: متكمليش وهو على وشك الانهيار، لكنه بدا متماسكا رافضا الحقيقة، لكن تكمل منى: وتلاحظ المحكمة أن محاضر التحريات والتحقيقات قد أعدت على عجل وتخلو من الدقة، ثم إنه قد اعتراها التناقض والغموض، لأن هذه التحريات كانت فى كثير من الأحيان...» يقاطعها هشام مرة أخرى: متكمليش بينما هى تقول له: هو ده الحكم اللى مستنيه من 30 سنة، هو يمزق الجريدة، ويردد: برضه هارجع شغلى.. هى: تانى فوق بقى وريح نفسك وريحنى.. ثم يمسكها ويضربها وهو يقول: هاعرف إزاى أربى الكلاب.

 

وتتوالى المشاهد لنقف عند مشهد النهاية.. داخل البيت الصمت سيد الموقف هو يرتدى بدلته وكرافته ويهذب شاربه مثل أيام عهده كضابط أمن دولة يمارس سطوته ويشعر بزهوته وقوته، يرن جرس الباب يدخل والد زوجته طالبا منه أن يأخذها، يظهر هشام ويطلق الرصاص على الأب وتصرخ الزوجة وتضربه ثم يطلق الرصاص على نفسه ليخلص نفسه من صراع عدم الاعتراف بالخطأ.

 

الفيلم الذى يعد بمثابة عملية فدائية قدم نموذجا وحشيا حقيقيا ساد فى زمن لضابط أمن الدولة الذى يلفق التهم ويسجن، والذى يستهوى السلطة منذ الصغر، وأصبح يمارسها داخل نطاق العمل وخارجه، ولم يستطع أن يتصور إطلاقا الخروج من السلطة ليعيش كمواطن عادى، نجح أحمد زكى فى مهمته فى تجسيد الشخصية عبر مراحلها المتعددة من الطموح والتسلط إلى الانكسار والصمود، عبر أداء رائع ومبهر وصارم وجرىء وسابق لعصره.

 

فالأفلام التى تناولت مثل هذا الموضوع «تورط رجال أمن الدولة فى تفاقم أحداث 17/18 يناير 1977» قليلة ونادرة وذلك لحساسية الموضوع بالنسبة للرقابة والنظام بشكل خاص، والفيلم يتميز بأنه أبرز هذه النوعية من الأفلام.

 

 

3- ضد الحكومة

 

تقمص أحمد زكى فى عمليته الجديدة هذه المرة شخصية مصطفى خلف محامى التعويضات الذى تلاعب بالقانون وبالحياة. مسرح الأحداث هنا هى قاعة المحكمة عام 1992 حيث وقائع جلسة حادث دهس قطار أتوبيس تلاميذ المدرسة. فى مشهد أخذه عاطف الطيب دون توقف أو تقطيع.

 

وقف د. عبدالنور محامى الحكومة ليعرى شخصية مصطفى خلف الذى يدافع عن الضحايا: مصطفى خلف بدأ حياته وكيلا للنائب العام، ولكنه لم يستمر سوى عام واحد، ثم طرد وفصل بتهمة الرشوة.. هذا هو المدعى بالحلم والتمسك بالمثل والمبادئ العليا، ثم عمل بالمحاماة واندفع ليدافع عن تجار المخدرات والعاهرات مستغلا ذكاءه فى استغلال ثغرات القانون، ثم يستولى على فلوس التعويضات ويضحك على ضحاياه.. المدعى ترك ابنه الوحيد لشخص آخر يربيه 15 عاما.

 

قال الحاجب محكمة وتكلم مصطفى فى مشهد رائع كانت عينا أحمد زكى فيهما البطل، فهما لم تنظرا لأحد وكأنهما تنظران للعالم كله.. وقال: أنا بس مكنتش أعرف إن لى ابن علشان أتخلى عنه وأتركه لشخص آخر يتكتب باسمه.. «الكاميرا من أعلى لأسفل» أشكر أستاذى الذى أتاح لى لأعلن كل خطاياى أمامكم وعلى الملأ لعلى أتطهر منها.. نعم أنا مثال للمحامى الفاسد، بل أكثر فسادا مما يتصوره أستاذى، أنا ابن لهذه المرحلة والمراحل التى سبقتها.. تفتح وعيى مع التجربة الناصرية، آمنت بها ودافعت عنها، فرحت بانتصاراتها، تجرعت مرارة هزائمها وانتصاراتها، هنت، عندما هان كل شىء، سقطت كما سقط الجميع فى بئر سحيق من اللامبالاة، والإحساس بالعجز وقلة الحيلة.. أدركت قانون السبعينات، ولعبت عليه وتفوقت.. تاجرت فى كل شىء فى القانون والأخلاق والشرف.. أنا لا أنكر شيئا، ومستعد للحساب وتحمل المسئولية، بل أكثر من ذلك أعترف أمامكم بأننى دخلت هذه القضية طامعا فى مبلغ تعويض ضخم، لكنى اصطدمت بحالة خاصة، جعلتنى أراجع نفسى.. أراجع موقفى كله.. حياتى وحياتنا.. اصطدمت بالمستقبل، نعم صبى من الذين حكم عليهم بأن يكونوا ضمن ركاب أتوبيس الموت رأيت فيه المستقبل الذى يحمل لنا طوق نجاة حقيقى، رأيتنى نسحقه دون أن يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أن هذه هى طبائع الأمور.. إن هذه جريمة كبرى لابد أن يحاسب من السبب فيها، إنى لا أطلب سوى محاسبة المسئولين الحقيقيين عن قتل 20 تلميذا لم يجنوا شيئا سوى أنهم أبناؤنا.. أبناء العجز والإهمال.. كلنا فاسدون.. لا أستثنى أحدا حتى بالصمت العاجز المواطن قليل الحيلة.

 

وهنا تجلى أداء زكى للغاية وهو يواصل عمليته الفدائية على الشاشة: سيدى الرئيس كل ما أطالب به أن نصلى جميعا صلاة واحدة لإله واحد إله العدل الواحد الأحد القهار.. لست صاحب مصلحة خاصة وليس لدى سابق معرفة بشخوص الذين أطلب مساءلتهم، ولكن لدى علاقة ومصلحة فى هذا البلد، لدى مستقبل هنا أريد أن أحميه، أطالب المسئولين الحقيقيين عن هذه الكارثة بالمثول أمام عدالتكم لسؤالهم واستجوابهم، فهل هذا كثير، أليسوا بشرا خطائين مثلنا.. أليسوا قابلين للحساب والعقاب مثل باقى البشر.. سيدى الرئيس أنا ومعى المستقبل كله نلوذ بكم ونلجأ إليكم.. ووسط دموع وحالة من الاندماج الكامل.. يطلق مصطفى أو أحمد زكى صرخته الإنسانية ورسالته الدنيوية.. أغيثونا أغيثونا.. والله الموفق. هنا تضج قاعة المحكمة بالتصفيق، ويضج قلب المشاهد أيضا بالإعجاب، بهذا الأداء الرائع لنجم قرر أن يقتحم الأشواك بتجسيده شخصيات مازالت مهمتها لم تنته بعد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved