من حكايات المقهى الدبلوماسى

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الإثنين 26 مارس 2018 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

كتبت كثيرا عن الدبلوماسية المصرية العريقة التى اعتز بالانتماء إليها وكتبت عن نظرة التقدير التى تحظى بها من دول العالم وعن المعارك التى خاضتها على الساحات العالمية والإقليمية والنجاحات التى حققتها والكبوات التى تعثرت فيها.

ولكنى اليوم أكتب ــ بمناسبة الاحتفال بيوم الدبلوماسى ــ حكايتين إحداهما عن طريق السماع والأخرى عاصرت ذكراها المتجددة.. وتبدأ كل حكاية بسؤال.

***

والسؤال الأول:

كيف تم اختيار أول وزير خارجية فى عهد ثورة يوليو 1952 أو حركة الضباط الأحرار كما كانت تعرف فى البداية؟ لم يكن لدى هؤلاء الضباط الشبان أى خبرة خارج نطاق الجيش.. وكانت وزارة الخارجية بالذات لديهم ولدى الغالبية العظمى من الشعب المصرى تمثل شيئا بعيدا... كان احتكاك الشعب بها محدودا جدا حيث لم يكن هناك جاليات مصرية فى الخارج بل إن السفر للخارج كان قاصرا على عدد محدود جدا من الطبقة العليا للمجتمع.

ففى كل أنحاء الريف المصرى تجد وزارة العدل ممثلة بالبيه وكيل النيابة وقاضى المحكمة والمحضر ووزارة الداخلية ممثلة بالبيه المأمور، والمالية ممثلة بالأفندى الصراف، والزراعة والرى ممثلين بقوة بالمهندسين وكذلك الطرق والكبارى والأوقاف.. كل الوزارات ممثلة فى أرجاء مصر إلا الخارجية فهى قابعة فى ذلك القصر المنيف بالعاصمة وتتعامل أساسا مع الخواجات.

كان الضباط الأحرار ــ ومعظمهم من أصول ريفية أو حضرية شعبية ــ بعيدين عن هذا المجال باستثناء على صبرى الذى اتخذوه مبعوثا لهم لإجراء الاتصال بالسفارتين الأمريكية والبريطانية.

***

أعود للسؤال الذى بدأت به المقال وهو كيف اختار «الضباط الأحرار» أول وزير خارجية فى عهدهم وما هو معيار اختيارهم؟ كان المعيار الأول للاختيار هو الاسم.. طلبوا قائمة بأسماء السفراء وأخذوا يراجعون قائمة الأسماء مستبعدين الأسماء مثل شوكت وعفت أو زادة ظنا منهم أنهم من أصول تركية حيث غابت عن هؤلاء الضباط إحدى حقائق التاريخ المصرى وهى أنه عندما بدأ نظام التعليم الحديث فى مصر أى المدارس على النظام الغربى وليس الكتاتيب كانت المدرسة تغير أسماء التلاميذ ويصبح الاسم المدرسى هو الاسم الرسمى.

ولعل مثالا قريبا على ذلك هو اسم أبو الدبلوماسية المصرية.. الدكتور محمود فوزى.. فلم يكن اسمه فوزى عندما التحق بالتعليم الابتدائى بل كان محمود الجوهرى.. المهم أنهم مروا سريعا على القائمة حتى عثروا على ضالتهم وهو السفير فراج طايع.. فلم يترددوا لحظة فى اختياره فهو اسم مصرى ريفى صميم معجون بالتربة المصرية.

وهكذا تم اختياره كأول وزير للخارجية المصرية فى عهد الثورة.. ولا يعنى ذلك أن تلك كانت كل مؤهلات المرحوم فراج طايع.. فلقد كان دبلوماسيا ذا خبرات متعددة وقام بتمثيل مصر قبل الثورة فى عدد من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة كعضو فى الوفد المصرى.

***

كنت وقتها أى فى عام 1952 أتأهب لدخول الجامعة بعد حصولى على شهادة التوجيهية (الثانوية العامة) والتحقت بالخارجية بعد ذلك بثمانى سنوات (1960).. فكيف حصلت على هذه المعلومة؟ كان خالى المرحوم الدكتور عبدالحميد الساوى عضوا باللجنة التى وضعت دستور عام 1954 وهو من أوائل المصريين الذين درسوا فى الخارج وعاد بعد الحرب العالمية الأولى بعد حصوله على الدكتوراه فى القانون من جامعة السربون، وكان صديقا للدكتور/ عبدالرزاق السنهورى رئيس مجلس الدولة ونائبه الدكتور/ سليمان حافظ الذى كان وثيق الصلة بضباط الثورة وكان مبعوثهم لدى الملك فاروق للتوقيع على وثيقة التنازل عن العرش.
سليمان حافظ هو الذى أبلغ هذه القصة لخالى الدكتور عبدالحميد الساوى الذى اعتبره بمثابة الأب الروحى فهو الذى قام على تنشئتنا بعد وفاة الوالد، وعندما نجحت فى اجتياز اختبارات الخارجية فرح فرحا شديدا وأخذ يقص بعض الطرائف عن الخارجية ومن بينها هذه القصة.. رحم الله الجميع رحمة واسعة.

***

السؤال الثانى:
هل كان لمصر سياسة خارجية قبل ثورة يوليو عام 1952؟
والجواب نعم.. وإليكم مثال واحد.. على إثر إعلان الاستقلال فى إندونيسيا فى 17 أغسطس 1945 اندلع القتال بين قوات التحرير بقيادة سوكارنو وقوات الاحتلال الهولندى، فخرجت المظاهرات تجوب شوارع القاهرة منددة بالاستعمار ومطالبة بدعم المجاهدين.. فتحركت الحكومة المصرية وأعلنت اعترافها بالجمهورية الوليدة الأمر الذى اعتبرته هولندا عملا عدائيا حيث كانت تصف حركة الاستقلال بأنها مجرد مذياع فى الغابات.
لذلك كانت إندونيسيا فى أمس الحاجة إلى الاعتراف الدولى.. ولم تكتفِ مصر بذلك بل قادت تحركا فى الجامعة العربية وبفضل عبدالرحمن باشا عزام حصلت إندونيسيا الوليدة على اعتراف جماعى من الجامعة العربية وكانت مصر هى أول دولة فى العالم تعترف بجمهورية إندونيسيا ولم تكتفِ بذلك بل قررت إيفاد ممثل دبلوماسى لتسليم وثيقة الاعتراف مع معونات طبية.
وصدرت التعليمات للقنصل المصرى العام فى بومباى المرحوم محمد عبدالمنعم مصطفى بالتوجه إلى مقر سوكارنو فى أدغال جزيرة جاوة وتسليمه وثيقة الاعتراف وقرار الجامعة العربية والمعونات الطبية ودعوة لإيفاد وفد لزيارة القاهرة.

ورحلة عبدالمنعم هذه تستحق التسجيل لأنها كانت رحلة محفوفة بالمخاطر وكان عليه أن يعد لها فى تكتم شديد.. فقام باستئجار طائرة داكوتا صغيرة يقودها طيار هندى متحمس للحركة الوطنية.. وكان عليه الطيران وسط حصار جوى وبحرى صارم وبدون مساعدة محطات أرضية أو إرشاد جوى من أى نوع وكان عليه أن يطير فوق الدفاعات الهولندية حتى يصل إلى العاصمة المؤقتة للثوار.

وفى صباح 13 مارس 1947 وسط ذهول حراس ممر الهبوط البدائى.. شوهدت طائرة صغيرة تهبط من السماء وتحمل راكبا واحدا.. وقد هرع سوكارنو ورفاقه إلى المهبط وسط مظاهرة جماهيرية حاشدة لاستقبال المبعوث المصرى.. وبعد ذلك بأسابيع قليلة تمكن وفد إندونيسى من الحضور للقاهرة تلبية للدعوة التى حملها المبعوث المصرى واستقبل بحفاوة شديدة حتى أن الملك فاروق أقام لهم مأدبة عشاء رسمية وتم خلال الزيارة توقيع أول معاهدة فى تاريخ إندونيسيا وهى معاهدة الصداقة بينها وبين مصر.

وما زالت هذه المعاهدة تزين جدران مدخل وزارة الخارجية الإندونيسية فى جاكرتا كما لا يزال اسم محمد عبدالمنعم يذكر فى الاحتفال بذكرى الاستقلال بل إن «اسم مستر مونم» معروف لدى العامة.. وعندما حل العيد الخمسينى لاستقلال إندونيسيا تم منح اسمه أعلى أوسمة الدولة وكذلك اسم المرحوم محمود فهمى النقراشى باشا رئيس الوزراء ووزير الخارجية فى ذلك الوقت والمرحوم عبدالرحمن عزام باشا أمين عام الجامعة العربية فى ذلك الوقت.. وأصدرت إندونيسيا فى عيد استقلالها الخمسين وثيقة جاء فيها «إن انتصار إندونيسيا الدبلوماسى فى واقع الأمر بدأ من مصر».

***

نعم كان لمصر سياسة خارجية قبل ثورة يوليو 1952.. وهناك خطوط فى السياسة الخارجية تفرضها عوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة والقومية.. فقد حاربت مصر من أجل فلسطين فى ظل عهودها المختلفة، وتمسكت بأزلية العلاقة مع السودان فى كل العصور.. كما أننا نجد فى مثال إندونيسيا نموذجا لتحرك دبلوماسى مصرى أخذت فيه مصر الملكية خطا ثوريا شبيها بما اتخذته مصر الناصرية فى عهد الثورة.

فقد أيدت بكل قوة ثورة إندونيسيا ومدت يد العون للثائر سوكارنو وفى تحرك خلاق ولا يخلو من المخاطر استجابت فيه الدبلوماسية المصرية لنبض الشارع، وها هو الملك فاروق يقيم حفل عشاء لمبعوثى الثائر سوكارنو الذى لم تعترف به دولة واحدة قبل مصر ثم يوقع معه معاهدة صداقة، ثم يأتى عبدالناصر ليقيم أوثق علاقات الصداقة مع سوكارنو الذى يستضيفه فى باندونج عام 1955 ليشهد مع زعماء العالم الثالث مولد النواة الأولى لحركة عدم الانحياز.

تحية للدبلوماسية المصرية فى عيدها السنوى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved