قوة وضعف أحمد زكى أمام أحلامه

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الجمعة 27 مارس 2020 - 12:29 م بتوقيت القاهرة

فى مثل هذه الأيام من كل عام، وعندما تمر ذكرى رحيله.. أبحث فى مكتبى عن شريط يضم أحد حواراتنا معا.. أسمع من جديد صوته وصمته.. وكلماته التى تهمس بقوته وضعفه أمام أحلامه وضحكة إنسان مشاغب مع الحياة ومقاوم لقسوة أيامها.
مرات قليلة تلك التى كنت أسأل أنا فيها وهو يجيب.. حيث كان يفضل هو أن يسأل ويجيب أيضا.. وكأنه كان يريد أن يتخلص من هموم تساؤلات تفور ذاتيا بداخله حول ماضيه وواقعه.. حاضره ومستقبله.
كان اللقاء يبدأ كالتالى: يسألنى هل معك كاسيت، وأرد: نعم، ثم يصمت لحظات طويلة تمتد لدقائق وهو يدخن حجر شيشته، وأنا أراقب نظرته الشاردة، ثم يفاجئنى يبدأ التسجيل.. يتحدث.. يسأل.. يجيب، وأتدخل أنا فى الحوار من لحظة وأخرى قبل أن تطول لحظة شروده.
سمعت خلال الأيام الثلاثة الماضية؛ حيث أعود مبكرا للمنزل فى ظل لحظاتنا الصعبة، عددا من شرائط بينى وبين النجم الراحل الكبير أحمد ذكى، لم أصدق أنه مرت 15 عاما على رحيله، إحداها دارت بمقهى صغير، جلسنا به سويا فى إحدى ضواحى حلوان عندما كان يصور مشهد الحفر بالجبل بفيلم «أيام السادات»؛ حيث دار بيننا حوار طويل حول المستقبل وكيف عانى إنتاجيا فى هذا الفيلم.. وتذكرت أيضا آخر مؤتمر صحفى له هو يتحدث عن فيلم حليم مرتديا بدلة سمراء يبدو منهكا، صوته خافت ليقول «أخيرا تحقق الحلم».
تذكرت إلى أى مدى كان بداخله مزيج من الإبداع والقلق قبل خوض مشروع حليم الذى فجر فينا مشاعر وأحلاما، آهات وشجونا، عملاقين هما بحق تاريخ لا ينسى.. حليم الصورة والأصل.
فى جنازة النمر الأسود أحمد زكى. أدركت معنى «جنازة مهيبة»، وكانت بحق كذلك. فلم أتصور كل هذا الحب للنجم الذى أظهر مشهد الرحيل مدى العشق الجماهيرى الكبير، وكشف عن لحظة ندم حقيقية هى أن التاريخ لم ينصفه فى حياته ولم يعطه حقه كما ينبغى.
كنت أقف أمام المسجد بميدان مصطفى محمود أراقب الدموع فى عيون المودعين بسطاء ونجوما، أراقب قيمة الفنان فى همسات وكلمات وصراخ ودعاء. وسار الموكب إلى مدافن 6 أكتوبر، وفى الطريق مر شريط طويل أمامى.. تذكرت كم كان أحمد زكى مصرا على مواصلة المشوار، رغم الأشواك التى تراكمت أمام كل خطوة يخطوها. وكان التحدى الأعظم هو تقديمه لفيلم سينمائى يرى فيه نفسه ومشواره وتحديه الزمن. فيلم يرصد قصة كفاح من القاع إلى القمة.. يروى حكاية إنسان فقير، يتيم، بسيط، لكنه يمتلك الموهبة العظيمة التى تؤهله للوصول إلى أعلى القمة، وكان هذا الفيلم هو «حليم».
عندما قرر الفتى الأسمر البدء فى خوض التجربة عمليا بعد سنوات من الإعداد والتجارب والتقمص فى روح وشكل عبدالحليم حافظ، كانت ملامح المرض ظهرت بوادرها على وجهه لكنها لم تخترق بعد بعض أجزاء جسده، كان يشعر بأن هناك شيئا غير طبيعى هذه المرة فى النزلة الشعبية التى أتته فيما بعد وسيطرت عليه وكشفت جزءا من المستور اللعين الدفين، لم يكن يتوقع أن هذه النزلة ستهاجمه بشراسة، لكن الموقف اضطره هذه المرة للذهاب إلى المستشفى، وهناك اكتشف الحقيقة الصادمة لمرضه، لكن كان أحمد زكى عنيدا ومقاوما حتى عندما سافر إلى باريس والتقى الطبيب الفرنسى الذى كان يعالج العندليب قال له: «أنت رجل قوى مثل حليم».
وكانت الجملة بمثابة بردا وسلاما على الخوف الذى انتاب أحمد من عدم تحقيق حلمه، فلم يكن «حليم» مجرد حلم عنده، بل حياة تعكس مرآتها رحلة شقاء وألم وصمود وإصرار ونجاح، وتدوى فى ساحتها صرخة آهاته التى ظلت دفينة طوال المشوار بل كان زكى ينتظر نهاية الفيلم وليلة العرض ليخفق قلبه من جديد فى محطة هى كل الرحلة، وأن يرى نفسه وقد تخطى عقبة جديدة من بين تلك العقبات التى كان يراوغه بها الزمن من حين لآخر،. وفجأة توقف الزمن عند مشهد ليل خارجى يبدو فيه «حليم» متأثرا بمعجبيه فى رحلة النجاح ومتأثرا أيضا بزحف الآلام على جسده، المشهد استغرق تصويره ساعة ونصف الساعة تغلب فيها أحمد على آلامه ليظهر عكس ما يشعر به لكن كانت هذه بداية الأزمة الصحية الكبيرة، وصاح المخرج ستوب وذهب «حليم» إلى المستشفى فى رحلة ليس لها عنوان.
أحمد كان مصرا على العمل واستكماله ويصور ساعات طويلة وكأنه كان يشعر بأنها النهاية، وكانت آخر لقطة له هى بالفعل آخر مشهد له عكس ما قيل بأن هناك مشاهد ناقصة وتم استكمالها بشكل آخر.
كانت إرادة فريق العمل مستمدة من إرادة زكى نفسه لمواصلة العمل، الطبيب الفرنسى الشهير الدكتور شيفاليه نفسه قال: «هذا الرجل خارج كتاب الطب بما يفعله».
هناك شخصيات فى حياتك تبقى معك حتى نهاية المشوار وتؤثر فيك إلى الأبد، وأحمد زكى من هذه النوعية من البشر إذا دخل حياتك لا يمكن ان يخرج منها حتى بعد وفاته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved