أزمة التعليم وفرص المستقبل

نانيس خليل
نانيس خليل

آخر تحديث: الخميس 26 مارس 2020 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

أثارت الأحداث الأخيرة والتى كان من تبعاتها إغلاق المدارس والجامعات الجدل مرة أخرى حول جدوى وفاعلية استخدام التكنولوجيا فى عملية التعلم سواء كان ذلك فى التعليم النظامى ما قبل الجامعى أو فى التعليم الجامعى وما بعد الجامعى. لكننا فى هذه اللحظات التاريخية التى نعيشها من عمر الإنسانية، والتى قد تكون مربكة لكل من المعلم والطالب والمدرسة والجامعة وأولياء الأمور ربما نكون لأول مرة (ومن باب الضرورة) نستكشف سويا أبعادا متعددة للتعاطى مع هذه التكنولوجيا لا كمشاهدين ومقيّمين بل كمشاركين وفاعلين. وربما تقودنا الأزمة، كما تقود مجتمعات كثيرة مثلنا، إلى إعادة تقييم رؤانا واختياراتنا المستقبلية. لن أدعى أن ما فى السطور التالية أفكارا مبتكرة وجديدة تماما. وإنما هو تقديم وتعضيد لمبادئ وأفكار قادت الكثير من التطوير فى مجال تكنولوجيا التعلم فى العقد الماضى.
أولا، دعونا نسترشد ببعض المبادئ. عندما تدخل التكنولوجيا فى مجال من المجالات يكون هذا إما لرفع الكفاءة أو لزيادة الفاعلية. أى أننا إما سنصل إلى النتائج أسرع أو أننا سنصل إلى نتائج أفضل، أو أن نكون محظوظين ونصل للاثنين معا. فالتكنولوجيا فى النهاية أداة وليست هدفا. وقد أدرك مطورى تكنولوجيا التعلم على مدار السنوات أنه فى مجال التعليم تحديدا كفة الفعالية يجب أن تكون هى الأرجح فى أى حل تكنولوجى أو رقمى. ويرجع ذلك للجدل التربوى والتنموى على مدار العقود الماضية، والذى هو ركيزة الكثير من التطوير فى سياسات الثقافة والتعليم فى أنحاء العالم. ومن أهم ملامح هذا الجدل ما نشرته منظمة «او أى سى دى»، فى تقاريرها منذ عام 2012 تحت عنوان العدالة والجودة من أجل دعم الطلاب والمدارس المحرومة وإزالة عوائق الحراك الاجتماعى. وبدون الخوض فى التفاصيل أقفز معكم إلى نقطة الانطلاق لهذه الدراسات والتوصيات والتى لخصها بذكاء العنوان: العدالة والجودة. فالمعنى المقصود من العدالة هنا ليس المساواة وإنما العدل فى تلبية احتياجات التلاميذ والمدارس الأقل حظا وتقديم التعليم الشامل للجميع بمختلف احتياجاتهم ومكانهم على السلم الاجتماعى والاقتصادى، فقد شدد المتخصصون ممن شاركوا فى تلك الدراسات على ضرورة تخطى معضلة الإتاحة إلى ما هو أهم وأجدى، وهو الجودة. فقد أثبتت الدراسات أن النظم التعليمية الفاعلة تتسم بهذين العنصرين: العدالة فى التعاطى مع كل متعلم والجودة فى ما يتم تقديمه. والسؤال هنا هل يمكن أن نستخدم تكنولوجيا التعليم كإحدى أدوات تحقيق العدالة والجودة؟ بالتأكيد. ولكن بشروط تجعل للاستثمار فى هذا المجال جدوى وفائدة وتقدم الأهداف على الأدوات. فالأمر لا يتعلق بوجود منصات رقمية أو محتوى إلكترونى وإنما بخلق بيئة تعلم تربط ما بين الطالب والمعلم من جهة والمحتوى وأهداف التعلم وأدوات تقويمه وتقييمه من جهة أخرى. أى ما يسمى بالمحتوى الذكى. باستخدام الذكاء الصناعى تستطيع التكنولوجيا أن توجه كل طالب إلى مسار تعلم خاص به يناسب تحصيله ويدفعه لأداء أفضل، وتستطيع أيضا إعطاء الإنذار المبكر للمعلم لكى يتدخل لمساعدة الطلاب وتحديد مواطن ضعفهم. التكنولوجيا هنا لا تحل محل المعلم والمدرسة، وإنما تساعد على تمكينهما ليقوما بأداء دورهما بشكل أفضل. هذا بالإضافة إلى ما طوره المختصون من ألعاب ونماذج محاكاة رقمية تحفز الطلاب على الدراسة وترفع من تحصيلهم. ليبقى المعلم وقدرته على قيادة هذه المنظومة العنصر الفارق فى نجاحها.
***
ولكن كيف يمكننا أن نحقق العدالة والجودة فى التعليم الجامعي؟ ينطبق كل ما سبق على التعليم الجامعى والمستمر مع فارقين مهمين: درجة تدخل الأستاذ فى العملية التعليمية وضرورة وجود منشآت وقاعات تتم فيها عملية التعلم. بمعنى آخر يحصّل الطالب الراشد العلم كليا أو جزئيا عن بعد، بشرط أن تصمم البرامج أكاديميا بدرجة من الجودة وباستخدام تكنولوجيا متخصصة. ولذلك فإن دولا، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تبنت فى العقود الماضية برامج التعلم عن بعد لتتيح الفرصة لمن لا تمكنهم ظروفهم الاقتصادية أو الاجتماعية من تكريس كل وقتهم للدراسة خاصةً ما إذا كانوا يسعون وراء أرزاقهم. وبذلك يكون النظام التعليمى قد وفَّر بشكل عادل حسب احتياجات المتعلم تعليما جامعيا فى أوقات مرنة بتكلفة أقل وبجودة عالية مع الاستفادة مما يترتب عليه من عائد اقتصادى وتوفير للنفقات وإعطاء الفرصة الأكبر للهيئات الأكاديمية والبحثية للتركيز على البحث العلمى والابتكار، بالإضافة إلى العائد التنموى على الدولة لتكون هذه معادلة العدالة والجودة فى التعليم العالى. خاصة وأن الجامعات قد طورت برامجها عن بعد بأحدث تقنيات ومفاهيم التعلم لتصبح هذه البرامج على نفس درجة جودة البرامج الاعتيادية النظامية. وإذا نظرنا إلى تجربة الدول التى تعانى من تكدس الأعداد فى قاعات المحاضرات أو ممن ارتفع لديها مصروفات التعلم الجامعى نجد أن التعلم عن بعد قد يقدم لهذه الدول صيغة جديدة لمعادلة العدالة والجودة.
***
كيف إذا نقيم ما يحدث لنا هنا فى مصر؟ إن ما تقوم به هيئات التدريس فى الجامعات والمدارس لإدارة الأزمة الحالية سيقدم لنا مثالا وتجربة جيدة وثرية تنتقل بأفكارنا وتفاعلنا مع التكنولوجيا والتحول الرقمى لما ترقى إليه من قدرة على إحداث نقلة نوعية تكون بمثابة سلم الصعود، ليس فقط للفئات القادرة وإنما للفئات الأقل حظا فى المجتمع. وربما ترشدنا جميعًا وترشّد اختياراتنا واستثماراتنا فى هذا المجال. وبينما نحن الآن، ولظروف استثنائية، فى محاولة لاكتشاف الأدوات المتاحة لدينا والتى يمكن أن نصيب أو نخطئ فى اختيارها، فإننى على يقين من أن هذه التجربة ستمنحنا الفرصة فى إعادة النظر فى كيفية بناء مراكز جودة تكنولوجية فى أنحاء القطر تعمل على تبنى وفرز ما يصلح، ويضيف إلى المنظومة التعليمية ويخدم أهدافها كما يخدم المجتمع بجميع طوائفه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved