الاستعداد لعالم ما بعد كورونا!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الجمعة 26 مارس 2021 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الاقتصاد العالمى، أليس من واجب الوقت أن تستعد الدول النامية جيدا لعالم ما بعد جائحة كورونا، وتحاول التغلب على وضعها اللامتكافئ فى النظام الاقتصادى العالمى؟! فإزاء الهزة الاقتصادية العنيفة التى تسببت بها هذه الجائحة، ولدورها فى تسريع محركات التحول الاقتصادى، فإن شيئا من عالم ما قبل الجائحة لن يبقى على حاله؛ لا على الصعيد الاقتصادى داخل كل دولة، ولا على صعيد العلاقات الاقتصادية فيما بين دول وأقاليم عالمنا المأزوم.
لكننا، ومن أسف، نعلم من دروس التاريخ الاقتصادى الحديث أن التحولات والتغيرات العالمية الكبرى لا تأتى دائما فى صالح المجموع؛ بل غالبا ما يتم تطويعها لصالح دول وأقاليم بعينها، وحتى لو أتى هذا التطويع على حساب دول وأقاليم أخرى، وبالأخص دول العالم النامى. ومادام ذلك هو المعتاد العالمى، فكيف يمكن للدول النامية ــ فى مشرقها ومغربها ــ أن تستعد هذه المرة لتتجنب ذات المصير المعهود وتدفع فاتورة التغيرات العالمية؟!
***
بمرور سنة كاملة من عمر جائحة كورونا، يمكننا وصفها بأنها جائحة عادلة فى الإصابة وظالمة فى الآثار. فهى وإن كانت أصابت جميع دول العالم، فإن قلة فقط من هذه الدول استطاعت الصمود فضلا عن المواجهة. فلقد عانت الدول المتقدمة من الويلات الاقتصادية للجائحة، وتزايدت طاقاتها الإنتاجية المعطلة، وتفشت البطالة بين صفوف عمالتها، واتسعت الفجوة بين الدخول الكبيرة والصغيرة للأسر. والحال نفسه كان فى الدول النامية، لكن باختلاف جوهرى؛ وهو أن قدرة هذه الدول على التصدى لويلات الجائحة كانت محدودة، وإمكاناتها فى المواجهة ظلت شحيحة، كنتيجة مباشرة لمعاناتها المزمنة من عجز داخلى وخارجى.
وخلال السنة الفائتة، وبينما كانت الجائحة تمسك بخناق العالم، انشغلت أقلام عديدة بتفسير وتحليل الظواهر والتداعيات التى صاحبتها، أو تلك التى نشأت وتفاقمت بسببها. كما حاولت أقلام أخرى استشراف مستقبل عالم ما بعد كورونا، والتنبؤ بأهم التغيرات المحتملة محليا وعالميا. وبين هؤلاء وأولئك، من المنطقى أن يتطلع صانعى السياسات الاقتصادية لمزيد من الأفكار والرؤى والمساهمات الفكرية حول الاستعدادات الواجبة لما بعد انقضاء الجائحة. فبهذه الاستعدادات ترسم الخطط وتصاغ السياسات وتُنفذ البرامج؛ وبدونها تظل عمليات التفسير والتنبؤ والاستشراف مجرد ترف فكرى لا طائل من ورائه. ولتجنب الوقوع فى هذا الترف، نحاول فى الفقرات التالية تحديد أهم وأنسب الاستعدادات الواجبة لعالم ما بعد كورونا فى واقع الاقتصاد المصرى، كنموذج لاقتصاد مهم من الاقتصادات الآخذة فى النمو.
على أننا نعتقد أن الاستعدادات المطلوبة للاقتصاد المصرى لعالم ما بعد كورونا ستكون عبارة عن سياسات بديلة تحت شعار نطرحه دائما، ألا وهو التغيير من أجل الاستقرار والتنمية. كما أن جوهر هذه السياسات البديلة يهدف للمواءمة والتوفيق بين المتوقع والمطلوب من التحولات والتغيرات التى أفضت إليها هذه الجائحة فى الاقتصاد المصرى. وفى مقدمة هذه الاستعدادات أن يعاد ترتيب أولويات الاقتصاد المصرى عند رسم سياساته الاقتصادية البديلة؛ لا لتتكيف مع التغيرات الاقتصادية المتوقعة فى عالم ما بعد كورونا، لكن لتمنح الاقتصاد المصرى جاهزية وقدرة عالية للصمود والمرونة أمام الصدمات الخارجية والداخلية. وقطاعيا، نحن دائما ما نضع التصنيع عالى القيمة المضافة على قائمة أولويات المستقبل الاقتصادى المصرى؛ لقدرته على تحسين الإنتاجية والتشغيل، ولدوره الأساسى فى تضييق العجز الاقتصادى الداخلى والخارجى. ووضع التصنيع على رأس الأولويات المصرية ليس مجرد شعار يُرفع أو لافتة توضع فى الواجهة؛ بل هى استراتيجية وطنية متكاملة يجب أن يُرى أثرها فى جميع الخطط والسياسات والبرامج المُصاغة. وبهذه الاستراتيجية يكون التصنيع المخدوم الأول من راسمى السياسات الاقتصادية. وأولوية التصنيع التى يتعين أن نستعد بها لعالم ما بعد كورونا، لا تعنى بحال إهمال باقى قطاعات الاقتصاد المصرى أو وضعها فى ذيل قائمة أولوياته. فلقد رأينا دولا ارتقت قطاعاتها الاقتصادية فقط عندما نهضت صناعتها الوطنية.
ومن الاستعدادات الواجبة لعالم ما بعد كورونا، أن يعاد لدور الدولة مكانته المستحقة فى النشاط الاقتصادى المصرى، وأن تُنحى السياسات النيوليبرالية جانبا. فالنيوليبرالية، ببنائها المعادى للتدخل الحكومى، وبالمكانة التى تمنحها للسوق فى إدارة دفة النشاط الاقتصادى، قد فشلت فشلا ذريعا فى غمار جائحة كورونا. إذ لم تتمكن قوى السوق المصرى بمفردها من امتصاص صدمة جائحة كورونا، ناهيك عن التغلب عليها. وكانت المساهمة الفعالة للإنفاق الحكومى هى العامل الحاسم فى تهدئة ما تمخض عن هذه الصدمة من مشكلات وأزمات اقتصادية طارئة؛ كاتساع نطاق البطالة والتضخم والركود والطاقات الإنتاجية المعطلة. ولا نبالغ إذا نسبنا للإنفاق الحكومى على البنية الأساسية دورا مفصليا فى امتصاص أثر صدمة جائحة كورونا فى ذروتها، وفى دعم النمو الاقتصادى المصرى رغم اشتداد عود الجائحة. وفى عالم ما بعد الجائحة، ستكون الاستعدادات الواجبة من جانب الحكومة متمثلة فى مساندتها للنمو الاقتصادى المصري؛ إما عبر تعزيز تدخلها الإنتاجى المباشر فى الأنشطة الاستراتيجية، أو بتحفيزها لقوى السوق لزيادة القيم المضافة المولدة محليا، أو حتى بدورها فى دمج وإعادة تنظيم وحدات الاقتصاد غير المنظم.
ومما نراه كذلك من استعدادات واجبة لعالم ما بعد كورونا، أن يعد صانع السياسات الاقتصادية العدة جيدا للتغيرات العميقة التى تظهر بوادرها حاليا فى روافد النمو الاقتصادى المصرى، استهلاكا واستثمارا وتصديرا. فالاستهلاك المحلى وميله يزيد ناحية المكونات المستوردة، يحتاج لسياسات مالية ونقدية عاجلة لدعم حصة المكون المحلى فى سلة استهلاك المصريين، وليظل هذا الاستهلاك رافدا رئيسيا لروافد النمو الاقتصادى المستدام. وعندما نتصور شكل الخريطة المستقبلية لوجهات الاستثمار الأجنبى، نرى مقدمات التغير فى وجهاته قطاعيا وجغرافيا، ونشاهد تعنته أمام نقل وتوطين التكنولوجيا. تأمل مثلا فى حال القطاعات التقليدية كالنفط والغاز والتعدين، ستجد أنها بدأت تفقد جاذبيتها الاستثمارية، وباتت تقترب شيئا فشيئا من حالة التشبع. لكن جاذبية القطاع الصحى مثلا ستأخذ فى الارتفاع فى الأجل المتوسط والمنظور، وستعلو معها جاذبية الاستثمار فى قطاع التكنولوجيا الرقمية، وخصوصا مع التحول المضطرد فى هياكل الإنتاج والتشغيل. كما ستزداد جاذبية قطاع الطاقة النظيفة والصناعات المعتمدة عليها والمرتبطة بها. خذ هنا مثلا قطاع صناعة السيارات؛ فستجد أن صناعة السيارات الكهربائية هى مستقبل صناعة السيارات. وخذ مثلا آخر فى صناعة الألواح الشمسية وطواحين الهواء؛ فالصناعات التى تنتج أجزاء هذه الألواح وتلك الطواحين هى مستقبل الصناعات المرتبطة بالكهرباء. وهذه أمثلة واضحة على صورة المستقبل للقطاعات الأكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ولدينا شواهد على تغير مماثل فى الوجهات الجغرافية لتدفقات الاستثمارات الأجنبية، وبالأخص لأسواق الدول الآخذة فى النمو. ففى الوقت الذى تتنافس فيه هذه الدول على حصة ضئيلة من كعكة الاستثمارات الأجنبية (مقابل حصة كبيرة للدول المتقدمة)، فإن التغير العميق فى هياكل التجارة الدولية، والتراجع المطرد فى تكاليف النقل، سيزيد من تراجع جاذبية أسواقها للاستثمارات الأجنبية، ولتفقد بذلك عنصرا مهما من عناصر جاذبيتها لهذه الاستثمارات. ولقاء هذه التغيرات العاصفة فى بيئة الاستثمار الأجنبى، يكون لزاما على الاقتصاد المصرى الاستعداد بسياسات استباقية وعالية الكفاءة، ليضمن بها جاذبية مرتفعة لتدفق هذه الاستثمارات، وليحافظ بها على نصيب متزايد من تلك التدفقات، وفوق ذلك، ليعزز من توطين التكنولوجيا المصاحبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ومن الممكن أن نمضى أكثر من ذلك لنرى كيف أن عالم ما بعد كورونا حافل بالتغيرات فى بيئة التصدير. وفى اقتصاد تتركز صادراته فى قطاعات تقليدية وضعيفة المرونة كصادرات القطاعات الخدمية، لا نرى بديلا أمام الاقتصاد المصرى غير الاستعداد باستراتيجية عاجلة لدعم صادراته السلعية، لتواكب ما نتوقعه من تغيرات. ومن دعم حكومى يزيد عوائد أنشطة التصدير ويقلل من أعبائها، إلى استهداف دقيق للأسواق الخارجية، فإن الاستعدادات التى ندعو إليها تستهدف بالأساس لتقليل مخاطر التركز فى الصادرات المصرية، وتسعى للارتقاء بالجهد التصديرى المصرى كما ونوعا.
ولا يجوز أن ننسى الأوضاع البيئية ونحن نتفكر فى الاستعدادات الاقتصادية المصرية الواجبة لعالم ما بعد كورونا. فالاقتصاد المصرى ليس بمنأى عن الأضرار البيئية التى تسببت فيها زيادة انبعاثات الكربون من الأنشطة الإنتاجية، ولاسيما أن العديد من الأنشطة الصناعية تعتمد على تكنولوجيا متقادمة وملوثة للبيئة. بيد أن السياسات الضريبية يمكنها أن تقدم حلولا عاجلة فى هذا السياق؛ كأن تفرض ضريبة على انبعاثات الكربون وتطبق بشكل لا يخصم من مقومات العدالة الاجتماعية. وارتباطا بالاستعدادات البيئية المطلوبة، فإن مراعاة أقصى قدر من الكفاءة فى استغلال الموارد الاقتصادية النادرة، وفرض رقابة صارمة على الاستخدامات المختلفة لهذه الموارد، يجنب الاقتصاد المصرى الوقوع فى «مصيدة هدر الموارد»، ويمنعه من استنضابها بمعدلات سريعة وغير تنموية.
***
وبعد، فإن القضية التى حملنا همها فيما تقدم، والأهداف التى سعينا ورائها فى ثنايا الفقرات السابقة، لم تكن مجرد سرد للاستعدادات التى نرى وجوبها لعالم ما بعد كورونا، على أهمية هذا السرد لمستقبل الاقتصاد المصرى. لكن قضيتنا المركزية أن يعى أى اقتصاد آخذ فى النمو أن مستقبله الواعد لا يأتى بالتكيف أو التأقلم مع التغيرات العالمية المحتملة والمتوقعة؛ ولا يحدث بالسير فى ركاب نظام اقتصادى عالمى غير عادل اقتصاديا؛ بل يحدث فقط عند صياغة حلول ومبادرات وطنية كفؤة وفعالة تنمويا. ويحدث فقط حال الاستعداد الجيد للمستقبل؛ استعدادا يحول من التبعية استقلالا، ومن العجز فائضا، ويبدل من الضعف قوة، ومن النمو تنمية وازدهارا!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved