ما السبيل لنصبح أكثر إنسانية؟

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأحد 26 مارس 2023 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة فاطمة واياو، تعرض فيه الفكرة الرئيسية لكتاب الطبيب البلجيكى، جان لوى لومبوراى، «ما السبيل الذى يجعل منا إنسانيين؟»، بمعنى حاجة البشر إلى إحياء المبادئ الإنسانية داخلهم مثل التحفيز والتعلم والتعاون والثقة، لمواجهة الأوبئة الاجتماعية التى يزخر بها عالمنا اليوم من العنف الأسرى والتمييز والفقر... نعرض من المقال ما يلى:

ما السبيل لنُصبح أكثر إنسانية؟ وما هو الطريق إلى الإنسانية العالمية؟ إنه السؤال المحورى الذى طرحه الكِتاب الصادر سنة 2013 عن Editions de l'Atelier بعنوان Qu’est ce qui nous rend humains؟ إنه السؤال المطروح فى عالم معولم يتجه أكثر فأكثر إلى المُتاجرة بكل شىء وجعل حاضرنا متجرا ضخما، يبتعد رويدا رويدا عما يمكن أن يجمع البشر كعلاقات إنسانية، أولها وأهمها اللقاء المباشر الصريح والصادق والحميمى بعيدا عن أى نفاق أو أحكام مسبقة. فقد أصبحت كل أساليب تواصلنا المُمكنة تتم على مواقع التواصل والإنترنت، حيث الحواجز والكذب والنفاق والصور الخادعة هى سيدة الموقف. فى مثل هذه الظروف المصنعة ولا أقول الذكية، يبدو سؤال من قبيل: ما الذى يجعل منا إنسانيين؟ ليس مجرد تساؤل عابر بل ضرورة ملحة ودعوة صريحة للتأمل فى ما آل إليه الإنسان. هكذا أراد مؤلف هذا الكتاب د. جان لوى لومبوراى أن يضعنا أمام مرآة ضخمة نُعيد فيها اكتشاف ذواتنا. ود. لومبوراى، هو طبيب بلجيكى الأصل، من مؤسسى النظام الصحى فى الكونغو فى سبعينيات القرن الماضى، شغل منصب مستشار للبنك الدولى وبرنامج الأمم المتحدة المعنى بالإيدز، وله مؤلفات منها: حول الإيدز: هل يُمكن كسب المعركة؟ حاليا هو رئيس شبكة «كوكبة» التى تضمّ أكثر من مليون ناشط من 15 بلدا فى العالم.

المؤلف ليس بكتاب أكاديمى، ولا برواية خيالية، بل هو خليط من كل هذا. إنه عبارة عن قصة حُلم مشترك أبصر النور على أرض الواقع بفضل الإرادة والثقة المشتركة بين الفاعلين الذين أسسوا قواعد ثابتة لحُلمهم المشترك بمبادرة من الدكتور جان لوى لومبوراى.
• • •

الكتاب عبارة عن سرد لتجربة وواقع بعيد كل البعد عن التنظير وحملات جمع التبرعات، يحكى فيه الدكتور لومبوراى بأسلوب بسيط وعميق فى آنٍ تجربته مع أصدقائه التى قادتهم إلى أن يضعوا إصبعهم على مكمن الداء. والداء هنا يتمثّل فى الفشل الذريع الذى كانت تئول إليه أغلب مشروعات التنمية والحملات التطوّعيّة والمساعدة فى الكثير من مناطق العالَم وفى العديد من المجالات: الفقر، العنف، الإيدز، الملاريا، الجفاف، تجارة الجنس، استغلال العمال، الاغتصاب الجماعى وغيرها. وإذا كان كتاب «ما الذى يجعل منا إنسانيين؟» يحكى عن تجربة الإيدز، فإن مبادئ شبكة «كوكبة» تستمد هويتها من الرمزية التى تحيل إليها كلمةSALT الإنجليزية، أى «الملح»، بوصفه ضروريا لسمو الحياة وتقاسم مباهجها وتحدياتها بين الشمال والجنوب فى إطار علاقة تشاركية، عادلة ومتساوية. تقوم المبادئ على: التحفيز – التقدير ــ التعلُّم ــ الفريق؛ وهى بالتالى مبادئ إنسانية نستطيع تطبيقها فى أكثر من مجال من أجل التضامن والمساعدة بعيدا من منطق التصدق والتعالى والتكبر، وأيضا الاستغلال والأحكام المسبقة والقاسية.

ما الذى يُمكن استخلاصه من هذه المبادئ المهمة؟ إن كل مشروعات التنمية والتوعية التى تم إنجازها فى مختلف ربوع العالم، كانت تفتقد بالتأكيد لروح هذه المبادئ، الأمر الذى جعلها تفشل. يمكن القول إذا إن الكتاب عبارة عن سرد وحكى صادقين لتجربة إنسانية قادت طبيبا بلجيكيا إلى مغادرة المكتب المريح فى العيادة وركوب مغامرة الاقتراب من الإنسان بكل أبعاده، وليس باعتباره مريضا فقط. الإنسان هو قبل كل شيء قوة وطاقة إيجابية لو أُحسن استخدامها ولو كف المحيطون به عن النظر إليه كضحية، يغدو مريض الإيدز هو أيضا طاقة وليس مجرد مريض، وتغدو ضحية العنف الأسرى بدورها طاقةً هى أيضا، وليست ضحية فقط.

لقد عملت «كوكبة» Constellation على استخراج ما يُمكن لأى كائن بشرى على وجه الأرض أن يحمله فى دواخله الدفينة وفى أعماق روحه المعذبة ليتجاوز محنه المُختلفة، ليس الإيدز فقط، ولكن أيضا الفقر والجوع والعنف والتمييز. ثمة مجتمعات محلية صنعت المعجزات حينما تمكن مواطنوها من أخذ المبادرة، ومن أخذ الكلمة التى طالما حرموا منها بدعوى أنّهم لا يعرفون، وبهدف فرض توجهات الخبراء المفترضين والمانحين الأسخياء الآتين من مختلف وكالات التنمية العالمية.

جاء الكتاب على شكل حكاية، وقد عرض تجارب ميدانية لأعضاء «كوكبة» المحليين الذين يسمون بكل بساطة مُيسِّرين ومُيسِّرات، مهما علا شأنهم؛ فهم يبقون دائما مجرد ميسِّرين، ومُسَيِّرين، ومستمعين جيدين بالنسبة إلى السكان المحليين. إنها استراتيجية ذكية للدعوة للتفكير الجماعى التشارُكى، من أجل وضع لبنات عمل محلى نابع من الإمكانيات المحلية الخاصة التى قد تبدو بسيطة ولكنها فى نهاية التجربة تشهد على أن استغلال المتوافر المحلى هو أكبر ثروة وأهم من انتظار أموال المانحين؛ ذلك أنه لا يمكن للمنحة أن تكون مجانية فى مطلق الأحوال، ولا بد فى مرحلة من المراحل أن يتم الإعلان عن الثمن الباهظ.
• • •

عندما أطلق الدكتور جان لوى لومبوراى برفقة أصدقائه ومتعاونين من مختلف القارّات مشروعه «كوكبة» فى العام 2004، لم يكن الهدف تعليم الآخرين أو تكوينهم أو تقديم دروس تقليدية لهم حول الوقاية من الأمراض مثلا، وخصوصا الإيدز، بل كان الهدف بالأساس دعوة الناس للتفكير معا ومناقشة العراقيل التى يواجهونها من دون نية التقييم والحكم على البشر أو على أفعالهم.
هكذا واصلت «كوكبة» عملها أو لنقل لقاءاتها المباشرة والخالية من الحواجز وهى تحمل حقيبة مملوءة بمبادئها الموجزة فى كلمة «سالتSALT»؛ فأعضاء «كوكبة» ليسوا فى حاجة إلى ملفات أو حواسيب أو حتى إلى الهواتف الذكية؛ ذلك أن لقاءاتهم غالبا ما تتم فى مناطق نائية على كوكب الأرض. وقد يبدو لى أن أصحاب السترات الذين ظلوا ملتصقين بمكاتبهم فى بروكسل أو جنيف أو نيويورك لم يسمعوا بأغلبية أسماء هذه المناطق، وبالتأكيد يصعب على غالبيتهم تحديد أماكنها على جغرافية الأرض.

كانت لقاءات عفوية نجح السرد فى كتاب «ما الذى يجعل منا إنسانيين؟» فى وضع القارئ بشكل عفوى وصادق فى قلب معركة شعوب ومجموعات منسية، ولكنها استطاعت أن تتجاوز العديد من محنها وأهمها مرض الإيدز. باختصار شديد، الكتاب يضعنا فى صلب قصص نجاح لتجارب من تايلاند، والكونغو، مرورا بالفلبين والهند وصولا إلى البرازيل وبلجيكا، إضافة إلى مناطق أخرى عبر العالم، حيث استطاع ما يزيد على المليون شخص أن يرسموا ملامح مستقبلهم ومصيرهم من خلال الثقة فى قدراتهم الذاتية والعمل المشترك. استطاعوا أن يقفوا فى وجه العديد من الأوبئة التى لا تقتصر على مرض الإيدز فقط، ولكن أيضا على الأوبئة الاجتماعيّة كالعنف الأسرى، والتمييز والتهميش والفقر من خلال وضع استراتيجية الضغط على السياسات المتبعة وتغيير مسار القرارات لمصلحة مستقبلهم ومستقبل الأجيال المُقبلة.

أخيرا هل هناك تهديد لأن تبوء مبادرة «كوكبة» بالفشل والزوال كالعديد من الأفكار والمشروعات السابقة التى لم تستطع الصمود بعدما غادرها مؤسّسوها؟

لن يعدم القارئ الجواب عن هكذا سؤال، فرفقاءُ جان لوى لومبوراى وأصدقاؤه المؤسسون، اعتمدوا رؤية مغايرة لتلك التى اعتدناها؛ فشبكة «كوكبة» تُشبه فى نظرهم نجم البحر وليست عنكبوتا، ذلك أن نجم البحر ينمو له طرف آخر حين يفقد طرفا ما، ما يعنى أن هناك نجما جديدا سينمو من الطرف المعزول. إنه لأمر يتناقض تماما مع نموذج العنكبوت «الذى ينتهجه العديد من المنظمات: إذا تمت إزالة ساق من العنكبوت فإنه لن ينمو مجددًا، ولا يُمكن للساق أن تُنمّى نفسها لتصبح عنكبوتا جديدا. أما إذا بتر رأسه، فستكون تلك نهايته، لحسن الحظ، ليس لنجم البحر رأس».

النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved