خدعوك فقالوا.. اقتصاد السوق يجلب الرخاء

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 26 مارس 2023 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

هل فى الأمر خدعة؟ ألا يقول كثيرون من علماء الاقتصاد أن اقتصاد السوق يجلب الرخاء، يحقق الكفاءة، ويوفر السلع الرخيصة، ويتيح للناس أن يعملوا بحرية، يضيفون أنكم إذا كنتم لا تصدقون ذلك فعليكم أن تنظروا للعالم حولكم، فالدول التى توفر لشعبها أعلى مستويات المعيشة هى الدول التى تأخذ باقتصاد السوق، والدول التى كانت تعادى اقتصاد السوق، وتدير اقتصاداتها على أساس التخطيط المركزى هى الدول التى حكمتها أحزاب شيوعية، سقط حكمها ولجأت بدورها إلى اقتصاد السوق، وبعضها نجح فى الأخذ بقواعده، مثل الصين، والبعض الآخر لم ينجح مثل روسيا، والتى وإن كانت تملك ترسانة عسكرية متقدمة، فاقتصادها مازال يعتمد أساسا على تصدير الطاقة كالبترول والغاز الطبيعى أو المواد الزراعية مثل القمح، وذلك إلى جانب الصناعات العسكرية التى تديرها الدولة، ولعلكم أعزائى وعزيزاتى القراء تنتابكم الدهشة فنحن بدورنا بدأنا التحول إلى اقتصاد السوق منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والذى أسمى تحوله هذا بالانفتاح الاقتصادى، ومع ذلك لم يأت الرخاء مع سياسة الانفتاح الاقتصادى، وقيل إن السبب فى ذلك هو أنها كانت بحسب تعبير الأستاذ الراحل أحمد بهاء الدين انفتاحا سداح مداح، وحاول الرئيس حسنى مبارك أن يحوله إلى انفتاح إنتاجى، ولكن انتهى الأمر بتردى الخدمات العامة من التعليم والصحة وضيق فرص العمل الكريم، فثار المواطنون عليه فى يناير ٢٠١١ مطالبين بالعيش مع الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولما استمر اقتصادنا فى التردى ذهبت حكومتنا للاتفاق مع صندوق النقد الدولى فى ٢٠١٦ والذى نصحها بالجدية فى تطبيق الإصلاح الاقتصادى، وفى مقدمة عناصره تعميق الأخذ بسياسة اقتصاد السوق، فتخضع العملة الوطنية بدورها لقواعد ذلك الاقتصاد، وكانت نتيجة ذلك هى انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع الواردات وزيادة المديونية، ومعها أيضا زيادة الفقر الذى أصاب ثلث السكان تقريبا، ولما استمرت مديونية الحكومة الداخلية والخارجية فى الارتفاع إلى حدود غير مسبوقة فى تاريخ مصر، وذهبت الحكومة للصندوق من جديد كانت نصيحته مرة أخرى هى خروج الحكومة من الاقتصاد وترك الجنيه المصرى بالفعل لقوى السوق، وسمعت الحكومة النصيحة أو بدت كما لو كانت قد سمعتها، فتركت الجنيه لقوى هذه السوق، فأصبحنا ندفع ضعف قيمته فى سنة ٢٠١٦ مقابل دولار أمريكى واحد، وسارعت الحكومة بعرض كل ما له قيمة لديها للبيع حتى يصبح اقتصادنا بالفعل اقتصاد سوق، ومع ذلك لا يأتى الرخاء، والرئيس نفسه يذكرنا بأن أيامنا صعبة، ولكننا قادرون بحسب قوله على أن نجتاز هذه الصعوبات.

التحول الكامل إلى اقتصاد السوق كارثة

الذين يقولون إن اقتصاد السوق يجلب الرخاء هم أشخاص حسنو النية، أو فلنقل إنهم لا يعرفون واقع الحال فى الدول التى تأخذ بحسب زعمهم باقتصاد السوق. التحول الكامل إلى اقتصاد السوق يعنى أن يصبح كل النشاط الإنسانى سلعة تباع وتشترى، وليس فقط البضائع الاستهلاكية. تصبح الأرض سلعة والعمل الإنسانى سلعة، والنقود سلعة وكل الخدمات من تعليم وصحة واتصالات ونقل سلعا. طبعا تحقق الكثير من ذلك فى الدول الرأسمالية ذاتها فى القرن التاسع عشر، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كارثة بمعنى الكلمة تكررت على مستويات قطرية من حين لآخر ولكنها تحولت إلى أزمة عالمية فى سنة ١٩٢٩ امتدت إلى كل دول العالم بما فيها مصر، فأصابت البطالة عشرات الملايين من العمال فى كل الدول المتقدمة، وكانت ألمانيا من أكثرها تعرضا لهذه الأزمة، ولذلك انجذب ضحايا هذه الأزمة فى ألمانيا وغيرها للأفكار النازية التى كان يدعو لها الزعيم الألمانى أدولف هتلر، فجاء إلى السلطة فى ألمانيا بفضل صناديق الانتخاب، وأحكم قبضة الدولة على الاقتصاد، ودفع العالم مرة أخرى ثمن هذه الأزمة الاقتصادية فى حرب عالمية لم تسلم منها أى قارة فى العالم، ودارت بعض أهم معاركها فى صحرائنا الغربية فى العلمين، وأغارت الطائرات الألمانية على القاهرة. ولذلك أخذت معظم الدول الرأسمالية فى تقليم وتهذيب قواعد اقتصاد السوق بعد هذه الأزمة، ومن ثم وضعت قيودا على عمل هذه القواعد. فرض حد أدنى للأجور هو خروج على هذه القواعد، وتوفير خدمات التعليم والصحة وإعانات البطالة والسكن الرخيص هو أيضا خروج على هذه القواعد، وكذلك وضع قواعد لاستخدام الأراضى فى المدن والريف وفى الغابات والأرض الفضاء حفاظا على البيئة هو إخراج لها من عمل قواعد اقتصاد السوق، بل يسبق ذلك الدور الذى يقوم به البنك المركزى فى كل هذه الدول من وضع سعر للفائدة صعودا أو هبوطا وهو أيضا ترشيد لقوى السوق كبحا للتضخم فى حالة بتقليل تدفق الائتمان والنقود أو بدفع الانتعاش الاقتصادى بتسهيل الحصول عليهما. ولولا وضع هذه القواعد لما تمكن أغلب المواطنين فى هذه الدول الرأسمالية المتقدمة من ضمان تعليم مناسب لبناتهم وأبنائهم، ولما تمكنوا من الحصول على خدمات صحية مناسبة، ولما حصل فقراؤهم على سكن لائق. ولما استقرت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيها.

اقتصاد السوق ليس سوقًا واحدة

ولكن لماذا يقبل المواطنون فى هذه الدول بالمعيشة فى ظل اقتصاد السوق إذا كان يخضع نظريا إلى قوانين يقال إنها لا يد للبشر مباشرة فيها وهى قوانين العرض والطلب، إلى جانب تدخل الدولة الذى يفترض أنه لا يلغى تماما عمل هذه القوانين وإنما يتفاوت من قطاع لآخر. بعض أسباب ذلك تعود إلى أنه توجد فى الحقيقة عدة أسواق فى ظل اقتصاد السوق، فهناك سوق للسلع، وهناك سوق للخدمات، وهناك سوق للأراضى، وهناك سوق للنقود والأوراق المالية. ويتفاوت مدى رضاء المواطنين عن عمل اقتصاد السوق بحسب مدى تعدد تواجدهم فى هذه الأسواق المختلفة. الكل موجود فى سوق السلع والخدمات، يشترون السلع الاستهلاكية ويحصلون على خدمات التعليم والصحة ويستخدمون المرافق العامة، ولكن لا يتواجد كل المواطنين فى سوق الأراضى فبعضهم يملك أراضى والبعض الآخر بل والأغلبية لا تملك اللهم إلا مسكنا خاصا، كما لا يتواجد كل المواطنين فى سوق الأوراق المالية. ولذلك فالمواطنون الذين يتمتعون بأرقى مستويات المعيشة هم الذين يمتلكون أصولا فى بعض هذه الأسواق الأخرى وخصوصا سوق الأوراق المالية من أسهم وسندات أو فى سوق الأراضى. أما الغالبية الساحقة من المواطنين فهى التى تتواجد فى سوق العمل كبائعين لقوة عملهم، ويعتمدون على الأجور والمرتبات كمصدر لدخلهم، ولذلك فإن المشاركين فى الاحتجاجات الكبرى التى عرفتها فرنسا وإلى حد ما بريطانيا فى السنوات الأخيرة هم الذين يعتمدون فقط على الأجور والمرتبات، أى بيع قوة عملهم.

السوق الحرة مجرد خيال

وهم آخر يطرحه بعض أنصار الاقتصاد الرأسمالى فى مصر، فهم يتصورون أن اقتصاد السوق يعنى أن تتحرر السوق من أى تدخل حكومى، والواقع أن بعض المنادين بالفلسفة التحررية فى الولايات المتحدة خصوصا يشددون على ذلك، ويرفضون أن تحصل الحكومة على ضرائب لتمويل الخدمات العامة أو حتى للتخفيف من حدة الفقر. وتصورهم خاطئ ليس فقط لأن تدخل الدولة الرشيد ضرورى لاستقرار النظام الاقتصادى الرأسمالى، ولكن لأنه حتى فى ظل تدخل الدولة تقوم الاحتكارات فتسيطر شركات كبرى على القطاعات الرئيسية فى الاقتصاد، والمثل على ذلك صارخ فى قطاعات الاتصالات والسيارات والطائرات بل وخدمات التوزيع. قد لا تصل هذه السيطرة الاحتكارية على شركة واحدة فى أى قطاع، وإن كانت شركة ميكروسوفت قد تمتعت بذلك عند بداية توفير خدمات الإنترنت، ولكن وجود عدد محدود من الشركات التى أصبحت تسيطر على هذه القطاعات ليس فى دولها فحسب ولكن على مستوى العالم هو حقيقة ماثلة يمكن التحقق منها بسهولة. هذه الشركات تحدد أسعار مبيعاتها أو خدماتها وفقا لاعتبارات كثيرة وليست حالة الطلب والعرض هى المحدد الرئيسى لها. بل وفى بعض السلع تتعمد هذه الشركات إبقاء سعر ما تبيعه مرتفعا لأنها تستهدف مستهلكين من أصحاب الدخول العالية لأن قيمة ما تبيعه ليس ما يحققه من نفع، ولكن فى مقدار الجاه والتميز الذى يتفاخر به من يحصل عليه. لنتصور مثلا أن سيارة رولز رويس تباع بسعر يقدر عليه عامة أصحاب السيارات. سيقل الإقبال عليها بكل تأكيد، فقيمتها هى أن من يستقلونها هم قلة تحرص على أن تظل قلة محظوظة. ولكم أيضا أعزائى وعزيزاتى القراء أن تطبقوا ذلك على أوضاعنا، فكثير من السلع والخدمات التى نحصل عليها تسيطر عليها شركات أو مجموعات صغيرة ومحدودة، سواء كان ما نحصل عليه حبوبا غذائية أو خدمات التليفون المحمول أو أدوية.

حكومات الدول الرأسمالية هى أول الحكومات خروجًا على قواعد اقتصاد السوق

لعلكم لاحظتم كذلك أن تلك الحكومات التى ترفع عقيرتها دفاعا عن اقتصاد السوق هى أولى الحكومات التى تخرج على هذه القواعد عندما ترى فى تطبيقها مساسا بمصالح دولها أو بعض مواطنيها. حكومة الولايات المتحدة تقدم الدعم للمزارعين عندما تفيض بعض محاصيلهم على نحو يهدد بانخفاض أسعارها فى السوق العالمية، والسياسة الزراعية للاتحاد الأوروبى تستهدف حماية مزارعيه من أخطار المنافسة مع صادرات الدول النامية، وتخوض الحكومة الأمريكية فى ظل جميع إداراتها جمهورية أو ديمقراطية حربا ضروسا ضد شركات الإلكترونيات الصينية وليس بالضرورة تخوفا من خطرها على الأمن القومى للولايات المتحدة. ولعلكم تابعتم سعى إدارة الرئيس بايدن لمكافحة استخدام تطبيق تيك توك فى الولايات المتحدة وتظاهر مواطنين أمريكيين أمام الكونجرس احتجاجا على منع هذا التطبيق والذى لا يرون فيه ضررا على أمن بلادهم.

نتمنى تطبيقا رشيدا لقواعد اقتصاد السوق فى مصر

إذا كانت الإنسانية لم تصل بعد إلى بديل لاقتصاد السوق بعد سقوط النظم الاشتراكية التى كانت تحاول اتباع تنظيم آخر للاقتصاد والمجتمع، فإننا نتمنى أن تصل هذه الملاحظات لأسماع الحكومة المصرية، وأن تتردد فى الاستسلام لدعاوى اقتصاد السوق التى تأتيها من صندوق النقد الدولى، وأن تتوقف عن بيع أصول إنتاجية مصرية ناجحة سعيا لإيرادات تمكنها من خفض مديونيتها فى الوقت الراهن، ولكن على حساب ترحيل أرباح هذه الأصول خارج مصر، فتزداد مديونيتنا وانكشافنا أمام الخارج فى المستقبل القريب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved