الهجرة والمتوسط والبؤس فى العالم

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 26 أبريل 2015 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

يوم الأحد 19 أبريل صدم العالم غرق مركب فى عرض البحر المتوسط لقى مصرعهم من جرائه 900 شخص ولم ينج إلا ما يناهز العشرين ممن حاولوا الهجرة من البؤس، تطلعا إلى حياة كريمة فى القارة الأوروبية. المجتمعات المدنية والسلطات والجانب الأكبر من السياسيين ووسائط الاتصال فى الاتحاد الأوروبى شعروا بوقع الصدمة هائلا. الاتهامات وجهّت شديدة إلى الاتحاد الأوروبى وتعلقت بسياسته للهجرة التى اعتبرت مقصورة لا تخصص الموارد الكافية لبرنامج عمليات البحث والانقاذ فى البحر المتوسط.

من وجهوا الاتهام أشاروا إلى أن مخصصات البرنامج الحالى أقل من مخصصات سلفه الذى موّلته إيطاليا وحدها والذى تذهب التقديرات إلى أنه أنقذ 150.000 شخص خلال عام واحد تقريبا حتى انتهى سريانه فى شهر أكتوبر الماضى. وامتدت الانتقادات إلى ما وراء ذلك، فتناولت نفس الوظائف الأساسية للوكالة الأوروبية لمراقبة السواحل الأوروبية «فرونتكس» التى تجوب قواربها المتوسط لحماية أقاليم الدول الأعضاء من تسلل الغرباء إليها، فتشكل تكلفة على الاتحاد دون أن تنجح فى مسعاها، ومعرضة حياة عشرات الألوف للخطر. ونحى آخرون بالمسئولية على سياسات بخيلة للجوء ولإعادة توطين اللاجئين ودعوا الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى إلى أن تكون أكثر سخاء، خاصة مع اللاجئين السوريين الذين اكتظت بهم الدول المجاورة وضاقت سبل حياتهم فيها، أما معلقون آخرون فاختاروا التنبيه إلى ضرورة تشديد التضييق على عصابات الاتجار فى البشر التى تقذف بالطموحين إلى حياة أفضل إلى التهلكة وتحقق من ورائهم الأرباح الطائلة، ولأن المركب الغارق يوم الأحد الماضى وأغلب تلك التى حاولت عبور المتوسط فى العام الماضى أبحرت من ليبيا، فلقد شدد كثير من المعلقين على ضرورة علاج الصراع فى ليبيا وإعادة بناء السلطة المركزية فيها.

فى ذهابها إلى ضرورة تحرك الاتحاد الأوروبى ودوله الأعضاء بالأشكال المذكورة، حدّدت المجتمعات المدنية ووسائط الاتصال الأوروبية إذن ما اعتبرته أسبابا للمأساة الإنسانية فى المتوسط وذكّرت بالقيم الأساسية لأوروبا المتمثلة فى حماية حقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية، وفى المسئولية والتضامن البشرى، وهى القيم التى تعتبر أسس الوضع الأخلاقى المميز الذى يحرص الاتحاد الأوروبى على أن يرى فيه نفسه وعلى أن يعترف به الآخرون. ولأنه يمكن تقدير أن التهاون فى احترام هذه القيم الأساسية فيه انتقاص من إنسانية الأوروبيين أنفسهم وأنه يعرِض نفس شرعية الاتحاد الأوروبى داخليا وأمام العالم الخارجى للخطر، فلقد سارع قادة دول الاتحاد إلى عقد قمة مخصصة لمأساة المتوسط يوم 24 إبريل، أى بعد أربعة أيام من وقوع الكارثة الأخيرة، وأعلنوا أنهم سيدرسون وضع برنامج من عشر نقاط لمواجهة المأساة من بينها إتاحة خمسة آلاف فرصة لإعادة توطين اللاجئين السوريين توزع على الدول الأعضاء حسب قدرة كل واحدة منها.

***

التحرك الأوربى قد يكون متأخرا ولكنه إيجابى ومشكور. والمراقب يلاحظ أيضا تطورا إيجابيا آخر ألا وهو أن الغرقى وصفوا بالمهاجرين وعملية عبورهم البحر المتوسط بالهجرة وأنه غاب عن كل ردِ فعل سياسى أو تغطية صحفية وصف هؤلاء المهاجرين «بغير الشرعيين» أو هجرتهم «بغير الشرعية»، وهو وصف يبدو وكأن كل ما يعنى القائلين به خروج عملية الهجرة عن القوانين وتجريم المقدمين عليها، بدون اعتبار لما إذا كانت هذه القوانين فى بلدان المنشأ أو الاستقبال منصفة وواقعية أم لا، ولا للعوامل السياسية والاقتصادية الطاردة أو الجاذبة لهؤلاء المهاجرين، سواء كانوا مهاجرين من أجل العمل أو لاجئين يفرّون من النزاعات المسلحة وآثارها. ولا يملك نفس المراقب إلا أن يتمنّى أن تكفّ الدوائر السياسية ووسائط الاتصال فى بلادنا عن تكرار نغمة «غير الشرعيين»، أولا لأنها نغمة تصرف النظر عن أسباب الظاهرة وتكتفى بالتركيز على شكلها، وثانيا لأنه وفى نهاية الأمر إن كان ثمة متضرر من «غير الشرعية» فهو بلدان الاستقبال، وثالثا، وهو أضعف الإيمان، لأن الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين، ومصر أول دولة فى العالم صدّقت عليها، أطلقت على شكل الهجرة هذا مصطلح «الهجرة غير المنظمة»، مبتعدة عن الحكم عليها بالشرعية أو غير الشرعية.

إلا أنه وعلى الرغم من إيجابية رد الفعل الأوروبى فإن المرء يعتريه الشك فيما إذا كانت مرتكزاته يمكن أن تؤدى إلى حلول فعّالة لمأساة محاولات عبور البحر المتوسط، بل إن التشكك يصل إلى ما إذا كان الاتحاد الأوروبى وحده يستطيع إيجاد هذه الحلول أو ابتكارها، سواء كان ذلك عبر سياسات الهجرة واللجوء أو السياسات المتوسطية الموجهة لبلدان البحر العتيق بالذات. صحيح أن ميزانية البحث والانقاذ شحيحة الموارد ولكن زيادة إمكانيات «فرونتكس» ستعزز فرص الإنقاذ غير أنها لن تحول دون أن يعرِض البشر أنفسهم لاستغلال عصابات تهريبهم والاتجار فيهم والمقامرة بحياتهم. وليس من شك فى أن انهيار السلطة فى ليبيا قد جعلها قاعدة سهلة لنشاط عصابات الاتجار بالبشر ولانطلاق المراكب المتحدية لسياسات الهجرة الأوروبية، ولكن هل تعدم هذه العصابات قواعد بديلة إلى الغرب من ليبيا أو على المحيط الأطلسى حتى وإن ارتفعت تكاليف نشاطها فيها؟ وبالتأكيد لا بدَ أن يعبرّ الاتحاد الأوروبى عن تضامنه الفعلى والفعّال مع اللاجئين السوريين ومع الدول المضيفة لهم بمنحهم مزيدا من فرص إعادة التوطين. ولا جدال ممكن فى أن الدول الأعضاء فى الاتحاد يجب أن تكفّ عن خداع نفسها وأن تعترف بحاجة اقتصاداتها الحديثة وغير المنظمة معا إلى اليد العاملة الأجنبية، ولكن اللاجئين السوريين قليلون بالنسبة إلى من يعبرون المتوسط وإلى من يهلكون فيه. تقدِر المنظمة البحرية الدولية أن عدد من سيحاولون عبور المتوسط فى العام الحالى يمكن أن يصل إلى نصف المليون، وهو عدد يستحيل تصور أن تسمح أى تعديلات فى قوانين الهجرة باستيعابه فى دول الاتحاد الأوروبى.

***

حقيقة الأمر أن مأساة المتوسط تبدو نتيجة لآفة أكبر هى البؤس فى العالم. بؤس سياسى تتفوق منطقتنا، بلا فخر، على مناطق العالم الأخرى خبرة به. وبؤس اقتصادى ترتب على نظام اقتصادى دولى أنتج فجوات متزايدة الاتساع فى الدخول والثروات بين الدول وفى داخل كل واحدة منها، وتولّد عنه الفقر والبطالة فى جنوب العالم وفى شماله أيضا. أليس جديرا بالانتباه إلى أن نسبة كبيرة من ضحايا المتوسط ليست من مواطنى دوله بل من الدول الواقعة إلى جنوبها فى إفريقيا، ومن إريتريا فى القرن الإفريقى، بل ومن آسيا، من بنجلاديش خصوصا ومن غيرها؟ ألا يمكن اعتبار هجرة هؤلاء بداية غير واعية لإعادة توزيع السكان فى العالم، ولجمع عنصر العمل الذى يمثلونه برأس المال المتوافر فى بلدان المقصد الأوروبية، وهى نفسها بلدان يعانى الكثير منها معاناة شديدة؟

الهجرة ليست إلا عرضا لمشكلات عميقة ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية وسياسية. لعل قادة الاتحاد الأوروبى ومعهم المسئولين فى بلداننا يتنبهون إلى ضرورة علاج هذه المشكلات وان يقنعوا دول العالم الأخرى بما تنبهوا إليه صونا لقيم الإنسانية وللتضامن والسلام بين البشر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved