اغتيال وطن

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 26 أبريل 2015 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

أكتب هذه السطور بعد حادثة اغتيال عقيد الداخلية وائل طاحون برفقة أحد المجندين المكلفين بحراسته إثر تعرضهما لعملية اغتيال بحى المطرية رحمهما الله. اغتيال العقيد والمجند ليست الحادثة الأولى ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة فى حاضر هذا الوطن الذى بات ينزف دما بشكل يومى. كعادة ردود الأفعال فى مثل هذه المواقف، ذهب البعض ليبكى الضحايا ويلعن الإرهاب ويطالب الحكومة بالقضاء على الإرهابيين، فيما ذهب البعض الآخر ليشمت ويبارك فى مقتل الضحايا معتبرين أن ما حدث ثأرا، بينما فضل الكثيرون الصمت بعد أن أصبح الكلام لا فائدة منه فى بلد مستنزف لا يسمع بعضه البعض.

أمام هذه الحادثة لا يمكن للمرء أن يسكت، صحيح أنها مجرد واحدة من عشرات بل ومئات الحوادث الإرهابية التى تضرب مصر، ولكن مقدار ما رأيته من شماتة وتشجيع وسعادة من البعض أدعى أنى لم أره منذ فض اعتصامات رابعة والنهضة. وهو تأكيد أننا نسير فى الطريق الخطأ، طريق الاحترابات الأهلية والتصفيات المتبادلة. وهو طريق لن يؤدى فقط إلى ضياع الحد الأدنى من السلم المجتمعى الذى بات يتلاشى تدريجيا منذ أن أصبح العنف هو عنوان السياسة فى مصر، بل سينتهى بنا إلى فشل ذريع على كل المستويات، وإلى تفتت كامل للمجتمع فتصبح الدولة مجرد صنم جامد خال من أى مضمون بعد أن تشرذم البشر وضاعوا فى الحروب الداخلية والتصفيات المتبادلة وهو سيناريو شهدته دول عدة فى التاريخ ولا أعلم لماذا نصر على المضى قدما إليه؟

•••

أمام هذه النزيف، تسجيل المواقف يكون مهمًا، ليس فقط لوضع النقاط على الحروف، ولكن أيضا لتسجيل الشهادة أمام التاريخ للأجيال القادمة ليعلموا من كان يسكب البنزين على النار ومن كان يحذر ويسعى لمنع المصير المظلم من العصف بمستقبل البلاد والعباد.

أمام هذا النزيف نقول إن مبدأ العنف والإرهاب مرفوض ومشجوب ومستنكر. ليس تقربا من تلك السلطة أو ذلك الجهاز، وليس مجاراة للمزاج العام أو للموجة السياسية، ولكن لأن الوطنية فى تقديرى تفرض علينا شجب واستنكار أى أعمال عنيفة تزهق الأرواح بلا محاكمات ولا محاسبات، ليغرق الوطن كله فى الفوضى.

أمام هذا النزيف فإن شجب العنف والإرهاب لا يكون وحده كافيا، ولكن شجب أى تعاطف مع الإرهابيين تحت أى دعوى أو حجة أو مبرر، ورفض واستنكار مواقف الشماتة والسعادة بل والاحتفال بمقتل رجال الجيش والشرطة يكون واجبا أيضا، ذلك أنه من سمات النفاق وعلامات انفصام الشخصية أن تقف وتشجب وتستنكر عمليات قتل المعتصمين هنا أو المتظاهرين هناك بينما تصفق لمقتل رجل جيش هنا أو شرطة هناك. القتل واحد والعنف واحد والإرهاب واحد إما أن تدينه كله وإما أن تقرر الاصطفاف مع هذا المعسكر أو ذاك، فلتعلن إذا هذا بصراحة بدلا من التخفى وراء شعارات حقوق الإنسان الرنانة.

أمام هذا النزيف، نقول إن رفضنا مقتل المعتصمين والمتظاهرين السلميين هو مبدأ حقوقى بحت لأنه يجب ألا يقتل أى إنسان لمجرد الاختلاف السياسى. ومن يخرج على القانون يجب عقابه بمنظومة العدالة لا بقانون الغاب. وبنفس المنطق ومن نفس المبدأ فإننا يجب أن نرفض أى عمليات استهداف فردى أو جماعى لرجال الجيش أو الشرطة أو غيرهم، فلكل الأنفس حرمة ولا تمييز.

أمام هذا النزيف، نقول إن القتل والعنف والانتقام والثأر خارج أطر العدالة والقانون لن تحل مشكلة ولن ترجع روحا فاضت إلى خالقها. ولن تنجح ثورة أو تعيد شرعية أو تبقى ديموقراطية ولكنها ستسهم فى زيادة بحور الدم وزيادة حدة الانتقام والانتقام المتبادل ليكتب الساسة فى النهاية صفقتهم على جثث الشعوب وهى قصة تكررت كثيرا فى التاريخ ونرفض بشدة أن تحدث فى مصر.

أمام هذا النزيف، نقول إن عمليات الاستهداف والقتل والاغتيال أضحت سهلة، فالسلاح منتشر والفرق المتناحرة مكشوفة لبعضها البعض. لا تقف بينها أسوار أو قيود. وتجار الدم والحرب ما أكثرهم. ومن هنا لابد من تشكيل كتل شعبية ناشطة وضاغطة على جميع الأطراف لإيقاف هذا المسلسل الدموى وتحكيم القانون وأطر العدالة محل البنادق والأسلحة الألية وسلخانات التعذيب.

•••

أمام هذا النزيف، لابد للنظام السياسى أن يتخلص من أوهام إمكانية إبادة الخصوم أو تحقيق انتصارات نهائية عليهم. هناك أدوات قانونية وفكرية وثقافية واقتصادية وسياسية ثم فى النهاية عسكرية للتعامل مع الخارجين عن القانون أو عن الدولة، أما سياسات عسكرة كل الصراعات وإنهائها بالضربات القاضية، فلن تأتى إلا بمزيد من الدم والعنف والإرهاب. فماذا تنتظرون أكثر من كل ذلك حتى تتعلموا الدرس؟

أمام هذا النزيف، لابد من إصلاح العدالة الجنائية فى مصر بكل مراحلها وأجهزتها. يجب أن يقوم القضاء بدوره فى تنفيذ القانون على الجميع بلا تمييز والبعد عن الصراعات والسجالات السياسية. فالحكم لا يجب ولا يمكن أن يكون خصما وإلا اختلت الموازين.

أمام هذا النزيف، لابد من إيقاف انتهاكات جهاز الشرطة المتكررة لحقوق المواطنين المحتجزين على ذمة قضايا أو المشتبه بهم. فالانتهاكات زادت وأعادتنا إلى سيناريو مبارك الكارثى حيث استخدم النظام وقتها الداخلية لتصفية الحسابات مع المعارضين والمخالفين إضافة إلى دورها التقليدى فى حفظ الأمن والنظام العام. فتم استنزاف الداخلية ودخلت فى صراعات وعداءات ضد الجميع فانتهى أمرها إلى ما انتهى إليه فى يناير. فلماذا الإصرار على تكرار التاريخ القريب بحذافيره إذا؟

أمام هذا النزيف، لابد أن يضغط كل من له صلة بصناع القرار فى مصر على النظام ليعيد السياسة المؤممة إلى الشارع. كفى حديثا عن المرحلة الاستثنائية والرئيس الاستثنائى والخوف من عودة الإخوان كمبررات خائبة للتغاضى عن احتكار السياسة بواسطة أجهزة الدولة الأمنية وتحويل الأحزاب والسياسيين إلى مجموعة من العرائس المتحركة بأمر النظام.

أمام هذا النزيف، لابد من الضغط على السلطة للتخلى عن مشروع قانون الانتخابات الهزلى الذى سينتج برلمانا هشا لن يكون إلا بمثابة حامل أختام السلطة. وسيفشل حتما فى الرقابة والتشريع ثم سينتهى به الأمر إلى الحل مجددا أو بنا جميعا إلى كارثة. فإما قانون جديد وإما ليتحمل الجميع تبعات «العك».

أمام هذا النزيف، لابد من إيقاف حملات الكراهية والتشوية والتحريض والفاشية والهيستريا الشعبية ضد أى معارض أو مخالف. لابد من إيقاف حكايات المؤامرات السخيفة القادمة من الخارج والبحث عن الفساد بداخلنا وحولنا. لابد من إعادة كسب الشباب إلى صف الوطن لا بالأغانى ولا بالوعود البراقة، ولكن بسياسات إدماجية تبعدهم عن طريق العنف والإرهاب وتعيدهم من الغربة التى يعيشها كثيرون منهم داخل الوطن.

أمام هذا النزيف، لا بديل عن العدالة. عدالة جنائية تليها أخرى انتقالية تحقق وتبحث بشفافية حتى يحصل كل صاحب حق عن حقه وحتى يتم القصاص من المجرمين والإرهابيين والقتلة والفاسدين. قصاص قانونى عادل يعبر عن دولة عريقة وضاربة فى عمق التاريخ، لا قصاص بربريا يسعى إلى وأد الآخر وتصفيته ولا يعبر إلا عن دول هشة أو هامشية أو منهارة.

•••

يمر الوقت فى مصر ويزداد نزيف الدم حتى بات خبرا اعتياديا ألفه المصريون. وهو مؤشر خطير وخاصة فى ظل إنغلاق المجال السياسى بإصرار وتعنت وصلف غير مسبوق من النظام السياسى الذى يصر على حكم البلاد بأساليب باليه كلفتنا جميعا أرواحا بريئة سقطت من جميع الفرقاء ومازالت. ورغم كل ذلك نسمع من مازال يبرر ويدافع بل ويزايد على المعارضين. أنقذوا مصر، فاغتيال رجل شرطة أو تفجير تجمع عسكرى أو تعذيب مواطن مدنى حتى الموت هو اغتيال بالتصوير البطىء للوطن المكلوم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved