لماذا لا يمكن محاكمة الفكر والإبداع؟

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الثلاثاء 26 أبريل 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

التفكير هو خصوصية لا يتمتع بها سوى الإنسان، مِنه من الله للإنسان عندما ميَزه بالعقل من دون المخلوقات جميعا، وهو فريضة من الله على كل شخص بأن يتفكر ويتعقل ويتأمل، والقرآن الكريم ملىء بالآيات التى تحض الإنسان على التفكير: «أفلا يتفكرون»، «أفلا يعقلون»، «أفلا يتدبرون».

أما الإبداع فهو النتاج الأصيل للتفكير والتأمل والتعقل، والإبداع لغة هو «الابتكار، أو إيجاد شىء غير مسبوق»، فهو الخارج عن المألوف والبعيد عن التقليد، ولعل أفضل تعريف له ما قاله المفكر الكبير زكى نجيب محمود فى أحد أعماله، إن الشعر مثل الحلم الذى يراه الإنسان فى المنام، فلا يمكن لأحد أن يحاسب صاحب الحلم على ما رآه فى منامه، لأنه يفقد كل عناصر الواقع المادى الذى نعيشه فى يقظتنا.

فى الحلم كما فى الشعر نعيش أحداثا لا وجود لها على الأرض، فيه نحلق فى السماء أو نعرج إلى الكواكب، ونتحاور مع الأحياء كما مع الأموات سواء، ويمكن أن نرى الله سبحانه وتعالى، وكذلك الأنبياء عليهم السلام، فضلا عن أن الزمان بمقاييسه الطبيعية لا وجود له فى أحلامنا، يمكن أن نعيش فيه حدثا مرت عليه سنوات طويلة، أو نحقق آمالا لا وجود لها فى الحاضر، ويختلط فيه الحاضر بالماضى وبالمستقبل دون أدنى حدود بينها!

وما ينطبق على الشعر ينطبق على كل صنوف الأدب ــ الرواية والقصة والمسرحيةــ والفنون بكل أنواعها، فالأديب أو الفنان فى جميع الأحوال هو حالم يخترق الزمان والمكان، ويغير من طبيعتهما، وينقل لنا صورة إبداعية تأخذ النفس البشرية إلى عوالم جديدة، هى كلها من صنع الخيال الذى لا يمكن للإنسان أن يُنكره، وهذا هو ما عبر عنه طه حسين – وأوضحناه فى مقالنا السابق «تطور الأحكام القضائية فى ازدراء الأديان..»ــ أن لكل امرئ شخصيتين متباينتين، إحداهما عاقلة مبدعة والأخرى مؤمنة مطمئنة، لا يستطيع أحد أن يخلص من إحداهما.

وتعطينا المدارس الأدبية نماذج لهذه الأحلام والإبداعات التى تخترق الواقع والمنطق، هكذا ــ فى المدرسة السرياليةــ يصف الشاعر الفرنسى بول إيليوار (1895 – 1952)Paul Eluard الأرض: «الأرض زرقاء مثل البرتقالة» «La terre est bleue comme ne orange»، فلا الأرض ولا البرتقالة زرقاء، ولكن فى هذا التشبيه انتهاك للترابط المنطقى والدلالى للنص (cohérence) يصطدم به القارئ فيُولد «عصفا فكريا» فيه تنشيط للعقل، ومتعة ذهنية لأنها نقلت المتلقى إلى عالم فسيح من الخيال، فكلما كان الخيال أوسع أو صادما للواقع كلما كان الإمتاع أكثر والصحوة الذهنية أكبر.

***

ومن المدرسة العبثية، يحكى أوجين يونسكو (Eugène Ionesco 1909 ــ 1994 –رائد مسرح العبث فى مسرحيته «الخرتيت» «Le Rhinocéros» ظاهرة «الخرتتة» أى تحول الإنسان إلى خرتيت، هكذا تحول أهل مدينة بأكملها إلى خراتيت إلا رجل واحد فقط! والمؤلف يشير بذلك إلى الذين يخضعون للحكام الديكتاتوريين أو للأيدولوجيات المصكوكة (كالشيوعية، والنازية، والجماعات الدينية...إلخ) دون تفكير أو تدبير، فيعتبرهم كالقطيع، وينتقد أيضا أهل النخبة الذى يمثلهم فى المسرحيةــ عالم بالمنطق يُعلم رجل مُسن، فيُشوه له القياس المنطقى «syllogisme» للمعادلة الشهيرة لسقراط: «الإنسان ميت، وبما إننى إنسان، إذن أنا ميت» إلى قياس مغلوط: «كل القطط موتى، وسقراط ميت، إذن سقراط قطة»!

هكذا ينقض عالِم المنطق العقل والقياس السليم ليبرر استسلامه وتحوله بإرادته إلى خرتيت وبالتالى انضمامه للقطيع، ويريد المؤلف بهذا التحريف للمعنى الإشارة إلى المنطق المعكوس لدى الحاكم الديكتاتورى الذى يقلب الحقائق بغرض تبرير مواقفه وقراراته التى غالبا ما تكون هدامة وكارثية، كمن يبرر فى حاضرنا انتهاك الحريات فى سبيل الأمن والاستقرار!

وفى المدرسة الواقعية، اتُهِم نجيب محفوظ فى قصته «أولاد حارتنا» بأن شخصية «جبلاوى» تمثل الذات الإلهية، والأبطال الآخرين «جبل» و «رفاعة» و«قاسم» يمثلون الأنبياء، ولكن القصة –فى الحقيقةــ تحكى الصراع الأبدى بين الشر والخير منذ قابيل وهابيل، وتعالج قضية الأسياد والعبيد، وتدين استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، فقد ربط المؤلف بين الخيال والواقع وقدم رؤية كونية شاملة.

مَثل «جبلاوى» دور الحكيم الأكبر، كما أن الشخصيات الأخرى قامت بدور الفلاسفة المصلحين فشابهت الأنبياء فقط فى مقاصدها للخير وللعدل، ولم تمثل شخصياتهم، هكذا نصح «جبلاوى» «جبل» باستخدام القوة ضد فتوات الحارة الذى يستخدمهم الناظر «رأس السلطة فى الدولة الحديثة»: «بالقوة تهزمون البغى، وتأخذون الحق، وتحبون الحياة الطيبة» «أولاد حارتنا ص 188»، كما دعى «رفاعة» إلى تغليب الرحمة والتسامح والمودة: «الحق أن حارتنا فى حاجة إلى الرحمة» (ص257)، وأما «قاسم» فطالب أبناء الحارة بالجمع بين القوة والرحمة دون اللجوء إلى العنف، ودعا إلى الحوار «سحقا لعهد الإرهاب والدم» (ص 454).

***

تلك هى نماذج من صور الإبداع تغلب فيها الخيال على الواقع، واستخدمها الأدباء بمهارة لتوصيل رسائلهم إلى مجتمعاتهم، خرجت كلها عن المألوف فاصطدمت بأتباع مدرسة النقل والتقليد دون تحكيم العقل أو الفكر، فكان حكمهم دائما تكفير المبدعين لأنهم اعتدوا على جمود الفكر وانعدام الخيال وضيق الأفق لديهم.

أدان الأزهر الشريف قصة «أولاد حارتنا» (1967)، ومنع نشرها، لأن بعض من رجاله وجدوا فيها مساسا بالذات الإلهية واستهزاء بالأنبياء، ولكن فى عهد فضيلة الشيخ سيد طنطاوى (2007)، أى بعد أربعين عاما، أعاد رجال من الأزهر النظر فى القرار، فأعادوا له صفة التنوير، وسمحوا بنشرها بدعم من الأستاذين القانونيين المرموقين أحمد كمال أبو المجد وسليم العوا، فكتب كل منهما رأيه فى القصة فى طبعة دار الشروق التى أخذت مشكورة على مسئوليتها النشر.

هكذا يتضح لنا باعتراف من علماء الأزهر «التنويريين» الذين لم يتأثروا بفكر «جاهلية القرن العشرين»، ومن القانونيين والمفكرين والأدباء بأن الفكر لا يمكن مصادرته، وأن الحلم والخيال هما فعل غير إرادى، وبالتالى لا يمكن محاكمتهما بالقانون الذى لا يطبق إلا على الفعل المادى، فإن الفكر لا يحاكم إلا بالفكر والرأى بالرأى والإبداع بالإبداع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved