درس من الإمارات

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الجمعة 26 أبريل 2019 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

من بين العديد من الدروس الاقتصادية التى تقدمها التجربة الإماراتية، لم يستوقفنى للتأمل، ولم يحثنى على الكتابة غير الدرس المتعلق بالجدوى التنموية لتدفق الاستثمارات الأجنبية للبلاد النامية. فعلى الرغم من أن الاقتصاد الإماراتى قد حقق طفرات ملحوظة فى مؤشرات «الرفاهية الاقتصادية»، فإن مؤشرات «التقدم الاقتصادى» مازالت تجعله واقفا فى صفوف العرب تحت مظلة الدول النامية. ذلك أن مؤشرات الرفاهية الاقتصادية ترتقى عندما تتطور فاعلية الأداء الحكومى فى الاقتصاد، وعندما تتحسن كفاءة أنشطة الاستهلاك المحلية، وعندما ينفتح الاقتصاد على العالم تجاريا، وعندما يصبح جاذبا للاستثمارات الأجنبية. أما مؤشرات التقدم الاقتصادى فتتحدد، صعودا ونزولا، بحصة الاقتصاد فى سلاسل القيمة المضافة العالمية فى أنشطة الصناعة التحويلية، والتى تُحددها نوعية الاستثمارات المحلية المولدة داخله، ونوعية الاستثمارات الأجنبية التى تتدفق إليه من العالم الخارجى.

وبينما تساهم تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر فى تعزيز مؤشرات الرفاهية الاقتصادية فى الدول النامية المتلقية لها؛ فإن مساهمتها فى التقدم الاقتصادى تحدث فقط إذا كانت ناقلة للمعارف والخبرات وطرائق الإنتاج والتكنولوجيا الصناعية الحديثة، وإذا ساعدت هذه الدول فى بناء اقتصاد صناعى يعتمد تدريجيا على نفسه. ولذلك، ولكى يمكن التفرقة بين الاستثمارات الأجنبية التى تحقق الرفاهية الاقتصادية وبين تلك التى تساهم فى التقدم الاقتصادى، يتعين علينا أن نعرف الدوافع الأساسية التى تجعل هذا الاستثمار يتحرك بين بلدان العالم المختلفة. فإذا كان الاستثمار الأجنبى باحثا عن منابع المواد الخام، أو باحثا عن الأسواق الواسعة لتصريف إنتاجه، فهو غالبا ما يفيد الرفاهية الاقتصادية ولا يفيد التقدم الاقتصادى. أما الاستثمار الأجنبى الباحث عن الكفاءة الاقتصادية، والذى يُفاضل بين الوجهات الجغرافية حسب قدرتها على تقليل تكاليفه وتعظيم عوائده التجارية وغير التجارية، فهو يصطحب معه التكنولوجيا التى تفيده فى تعظيم هذه العوائد؛ وبالتالى يفيد التقدم التكنولوجى والاقتصادى فى الوجهات المتلقية له. وليس فى ذلك ما يدعوا للاستغراب، مادام المعيار الرئيسى للتقدم الاقتصادى يتمثل فى الترقى صُعدا فى امتلاك التكنولوجيا الصناعية الحديثة.

***
وما إن اتضحت دوافع الاستثمارات الأجنبية فى التحرك عبر الوجهات العالمية، وفى اختيار القطاعات الاقتصادية التى تتركز فيها، وفى حدود دورها فى صناعة التقدم الاقتصادى فى هذه الوجهات، حتى بدا لى أن الاستثمار الأجنبى لا يتحرك للتركز فى قطاع تطبيقات الهاتف المحمول المعتمدة على شبكات التواصل الاجتماعى، كتطبيقات النقل التشاركى. فما دامت هذه التطبيقات يمكن انتاجها وتسويقها من خلال شبكة الإنترنت العالمية، فما الداعى إذن لكى يتحرك الاستثمار الأجنبى من موطنه الأصلى ليبحث عن موطن جديد لينتج هذه التطبيقات؟!

هذا التساؤل الجوهرى قد قفز إلى ذهنى وأنا أتابع تفاصيل استحواذ شركة «أوبر» العالمية على شركة «كريم» الإماراتية، واللتين تعملان فى قطاع النقل التشاركى. إذ يعد هذا الاستحواذ بمثابة تدفق للاستثمار الأجنبى للاقتصاد الإماراتى. صحيح أنه استثمار لا ينشئ طاقات إنتاجية «افتراضية» جديدة، ولا يخلق قيم اقتصادية مضافة جديدة، لكونه مجرد انتقال للملكية بين المساهمين المحليين والدوليين؛ ولكنه مع ذلك يظل نوعا من أنواع الاستثمار الأجنبى. فما هو التفسير المنطقى لهذا الاستحواذ؟ وهل من المتوقع أن يخدم السياسات الاقتصادية الإماراتية التى تسعى لتحقيق التقدم الاقتصادى؟

للإجابة عن هذين السؤالين، دعنا نذهب بعيدا لشرق العالم، حيث التجربة الصينية فى التطور التكنولوجى والتقدم الاقتصادى. فمن المشهور أن الاقتصاد الصينى يفرض شروطا قاسية على تدفقات الاستثمارات الأجنبية للشركات التى تعمل فى شبكات التواصل الاجتماعى، وللدرجة التى لم تتمكن معها أشهر هذه الشركات من الدخول لسوق الصين الواسعة (لا تمتلك شركة «فيس بوك» وشركة «تويتر» حقوق التشغيل فى الصين). وحتى الشركات العالمية التى استطاعت، بشق الأنفس، أن تتكيف مع الشروط الصينية القاسية، قد واجهت منافسة حامية الوطيس مع الشركات الصينية المحلية العاملة فى ذات المجال (تخارجت أخيرا شركة أمازون العالمية من سوق الصين، بعدما خسرت المنافسة مع شركة على بابا الصينية). فلقد فطنت السياسة الاقتصادية للصين أن سوقها الواسعة هى العامل الأكثر جذبا لتدفقات الاستثمارات الأجنبية الباحثة عن الأسواق (لاحظ أن السوق الصينية تبلغ خمس السوق العالمية تقريبا). وبالاعتماد على هذه الميزة الفريدة عالميا، تُجبر الصين الشركات الأجنبية التى ترغب فى البيع داخل هذه السوق، أن تنقل أنشطتها الإنتاجية داخله، وأن تصطحب معها تكنولوجيا التصنيع الحديث؛ وإلا فالسوق الصينية موصدة أمامها. ولما كانت الشركات العاملة فى قطاع تطبيقات التواصل الاجتماعى ليست لديها أى تكنولوجيا يمكن نقلها للاقتصاد الصينى؛ وأن ما تحوزه من ابتكارات هى مجرد تطبيقات إلكترونية على شبكات الإنترنت، ويمكن انتاجها محليا بأقل التكاليف؛ وأن وجودها فى الاقتصاد الصينى يمكنه أن يخلق أعباء غير اقتصادية (كمشكلات الانكشاف الأمنى مثلا)؛ فهى، لكل ذلك، تعتبر من الضيوف غير المرحب بهم هناك. فمن منظور التكلفة والعائد، ليس لهذا النوع من الاستثمارات الاجنبية جدوى تنموية ذات بال. فلماذا إذن ندعه يربح من سوقنا الواسعة؟! هذا هو لسان حال السياسات الاقتصادية الصينية.

وإذا عُدنا الآن للتجربة الإماراتية، وبالاعتماد على «المنطق الصينى» فى تحليل الجدوى التنموية للاستثمارات الأجنبية، فاعتقادى أن استحواذ شركة «أوبر» على شركة «كريم» سيفيد الرفاهية الاقتصادية فى الاقتصاد الإماراتى فى الأجل القصير والمنظور؛ لكن الشكوك الاقتصادية ستُثار كثيرا حول تعزيزه للرفاهية الاقتصادية فى الأجلين المتوسط والطويل. فمن ناحية، فإن المكاسب التجارية المحققة فى هذه الصفقة ستقابلها أعباء مستقبلية على ميزان المدفوعات الإماراتى، كنتيجة منطقية متوقعة لتحويل أرباح شركة كريم لملاك شركة أوبر العالمية خارج الاقتصاد الاماراتي؛ تلك الأرباح التى كان أغلبها يُعاد تدويره واستثماره داخل الاقتصاد الإماراتى، وكانت تُعزز من إمكانات نموه الاقتصادى. ومن ناحية ثانية، وبسبب انقطاع الصلة بين هذا الاستحواذ وبين شروط توطن التكنولوجيا الصناعية التى تعوزها المرحلة الحالية فى التطور الاقتصادى الاماراتى، فإن هذا النوع من الاستثمارات الأجنبية لا يضيف جديدا لخطوات التقدم الاقتصادى التى تسعى إليها السياسات الاقتصادية هناك.

على أننا إذا أعدنا النظر فى باقى تفاصيل السياسات الاقتصادية الإماراتية، ستظهر أمامنا علامات اقتصادية مُضيئة فى إقليم «جبل على» الإماراتى. ففى هذا الإقليم الاقتصادى الجاذب للاستثمارات الأجنبية فى قطاع الصناعة، بدأت تظهر بوادر للتوطن التكنولوجى الذى يفيد خطوات التقدم الاقتصادى، وتمكنت المنتجات الإماراتية، شيئا فشيئا، من فتح الأسواق الخارجية، وخصوصا أسواق دول مجلس التعاون الخليجى. ومحصلة ذلك، أنه حتى لو كانت خطوات التصنيع التجميعى فى منطقة «جبل على» تمنح الاقتصاد الإماراتى حصة متواضعة فى سلاسل القيمة المضافة العالمية (لكونها مازالت تمثل أنشطة صناعية خفيفة، وتتركز فى قطاعات التجميع والصيانة وإعادة التدوير)، إلا أنها مع ذلك تعتبر خطوة مهمة على الطريق التنموى الصحيح، وتعتبر دليلا إضافيا على أن الاستثمار فى الأنشطة الصناعية هو وحده القادر على تعزيز فرص التقدم الاقتصادى، وهو وحده الذى يستحق أن تقدم له التسهيلات والحوافز.

ومهما يكن من أمر، فإن مجرد عقدنا لمقارنة دولية بين السياسة الاقتصادية فى كل من الصين والإمارات، وعقدنا لمقارنة داخلية بين الأثر التنموى للاستثمارات الأجنبية العاملة فى الأنشطة الصناعية وفى أنشطة التطبيقات الإلكترونية، لهو كفيل بحد ذاته فى استخلاص درس تنموى تشتد إليه الحاجة أثناء صياغة سياسات جذب وتشجيع الاستثمارات الأجنبية فى بلداننا العربية. فما هى أبرز مكونات هذا الدرس؟

إن المكون الأول للدرس المستخلص من تجربة الإمارات يتمثل فى أن الوجهات القطاعية للاستثمار الأجنبى المباشر تعتبر حاسمة فى معرفة أثر هذا الاستثمار على الرفاهية الاقتصادية، وفى تحديد مساهمته فى صناعة التقدم الاقتصادى فى موطنه الجديد. ولما كانت الرفاهية الاقتصادية لا تتعارض مع التقدم الاقتصادى، ولا يمكن مقايضة أحدهما بالآخر، فإن كل خطوة يقطعها الاقتصاد صوب التقدم الاقتصادى بدعم من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تعنى بالضرورة أنه قد قطع خطوة ــ أو عدة خطوات ــ صوب الرفاهية الاقتصادية. أما مجرد تحقق الرفاهية الاقتصادية، والتى قد تحدث مصاحبة لتدفقات هذه الاستثمارات، فهى لا تُقيم دليلا على أن الاقتصاد الوطنى قد حقق تقدما اقتصاديا.

وانطلاقا من النقطة السابقة، فإن المكون الثانى للدرس الإماراتى هو وجوبية إجراء تحليل دقيق للتكاليف والعوائد للأنشطة الاستثمارية، حتى يمكن اختيار القطاعات الملائمة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، والتى تضمن نقله للتكنولوجيا الصناعية الحديثة. فلو أخضعنا قطاع النقل التشاركى لهذا التحليل، لسقط بامتياز فى اختبار التكاليف والعوائد والجاذبية للتكنولوجيا الصناعية. فسائقو النقل التشاركى محليون، والسيارات المستخدمة فى هذا النقل محلية، وتستخدم طُرقا محلية، وتستهلك وقودا محليا يلوث البيئة المحلية؛ وبعد كل ذلك، تحول حصة معتبرة من أرباحها للخارج (قد تزيد هذه الحصة على ثلث الأرباح)، لا لشىء إلا لأن هذا الخارج يمتلك تطبيقا على الانترنت. فهل يُعد ذلك من قبيل الرشادة الاقتصادية؟!

أما المكون الثالث فى هذا الدرس، فهو يتمثل فى كيفية حساب وتقدير الاستثمارات الأجنبية التى تستحق الحوافز المشجعة لانسيابها للدول العربية. فبالإضافة لأهمية الوجهة القطاعية للاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن الاعتداد يجب أن يكون بالاستثمارات التى تبنى الطاقات الإنتاجية الجديدة، أو توسع وتطور الطاقات الإنتاجية القائمة. أما عمليات الاستحواذ على الطاقات الإنتاجية القائمة، فلو سلمنا بأنها تمثل تدفق رأسمالى لداخل الاقتصاد، فإننا نتحفظ على الاعتداد بها كاستثمارات أجنبية ذات جدوى تنموية مُعتبرة.

***
إن أحدا لا يجادل فى أهمية انفتاح الاقتصاد العربى على العالم استثماريا. لكن الانفتاح المُنضبط هو الذى يستهدف تحقيق التقدم الاقتصادى والاعتماد العربى على الذات، ولا يكتفى بحسنات «رفاهية اقتصادية» مؤقتة الحدوث. وعلى هدى من الدرس الإماراتى الذى حددنا أبرز ملامحه فى الفقرات السابقة، ألا يمكن لتدفقات الاستثمارات العربية البينية أن تكون بديلا للاستثمارات الأجنبية التى تستهدف فقط الاستفادة من مُقدراتنا العربية، كى تلعب هذه الاستثمارات البينية الدور الرئيسى فى تحقيق الرفاهية الاقتصادية العربية، وفى ذات الوقت، تساند خطوات العرب صوب التقدم الاقتصادى؟! اعتقادى أن هذا السؤال من أهم أسئلة المستقبل العربى!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved