أدوات الثورة المستمرة


تامر موافي

آخر تحديث: الأحد 27 مايو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

فى مقالى السابق «ما لا تسقطه الثورة، تعيد إنتاجه الانتخابات» حاولت أن أوضح أنه طالما استمر احتكار أطراف النظام للثروة والاستخدام الشرعى للقوة وللمعرفة فى المجتمع فإن أى عملية سياسية لا يمكن أن تؤدى إلا إلى إعادة إنتاج النظام فى صورة جديدة يعاد فيها توزيع الأوزان النسبية للسلطة التى يحوزها كل طرف. فقط فى حالة الثورة وعندما تكون الجماهير على الأرض يتعطل فعل هذه العناصر الثلاثة للقوة فى المجتمع. فالجماهير المحتشدة لا يمكن شراؤها بالمال، كما أن استخدام القوة ضدها يسقط عنها شرعيتها أولا ثم هو غير مجد ومآله إلى الفشل ثانيا. وأخيرا تخرج الجماهير على الأرض خارج نطاق تأثير آلات إنتاج المعرفة المعتادة وتنتج معرفتها بنفسها وبشكل مباشر على الأرض.

 

●●●

 

ولكن الواقع دائما أكثر تعقيدا مما قد تصوره تجريداتنا النظرية. فصحيح أن الجماهير وعندما تحتشد فى موقف الانتفاض والثورة تمتلك قوة شبه مطلقة يقف أمامها النظام عاجزا ومضطرا إلى إجراء حسابات دقيقة للتنازلات التى عليه تقديمها لعبور الموقف بأقل خسائر ممكنة، إلا أن هذه الجماهير ذاتها لا يمكنها أن تعرف على وجه الدقة كيف ينبغى أن تستخدم قوتها التى فاجأتها كما فاجأت الخصم وربما حتى أفزعتها كما أفزعته! الحقيقة التى تتبدى لما يشبه اللاوعى الجمعى للجماهير هى أن حالة الاحتشاد هذه لا يمكن أن تدوم، لذا فبمجرد أن تنجح فى تحقيق هدف يبدو مناسبا كإسقاط رأس النظام، تبدأ حالة الاستنفار العام فى التراخى تدريجيا. وفى ظل غياب أدوات للصراع تشغل الفراغ الممتد بين حال الاستنفار الكامل وبين الانقياد لعملية سياسية يديرها النظام بأدواته التقليدية يبدو أنه لا بديل عن محاولة تحقيق المستحيل، أى استكمال الثورة من خلال العملية السياسية.

 

هل هذه هى النهاية إذن؟ يقينا لا! فالنظام ذاته الذى أعيد إنتاجه هو ما يدفع فى اتجاه استمرار الصراع. النظم القائمة على الاستغلال تحيا فقط بالتمدد والتغول على حساب الناس ومن ثم هى تفرض عليهم أن يكونوا فى صراع مستمر معها. كل ما هناك أن هذا الصراع ينقسم إلى عشرات ومئات الصراعات الصغيرة فى كل مكان للعمل أو السكن. ومرة أخرى فى غياب أدوات وسيطة لربط هذه الصراعات ومنح الجماهير قدرا أكبر من القدرة على إدارتها بنجاح لصالحها، تستمر جميعها دون الوصول إلى حسم حقيقى. وبينما يتضاءل مع الوقت (العشم) فى حل تقدمه العملية السياسية تستمر إحباطات الصراعات الصغيرة فى التراكم لتولد إنفجارا جديدا لا يمكن توقع إن كان سينتهى إلى دورة جديدة من إعادة إنتاج النظام بعد خلخلة بعض ركائزه أم أن افتقاد النظام إلى المرونة مع نفاذ ما يمكن أن يقدمه من تنازلات قد يدفع الأمور إلى الفوضى الشاملة!

 

كلمة السر فى هذه الصورة هى «الأدوات الوسيطة» وأعنى بها ما يمكن للجماهير استخدامه فى صراع ممتد ضد النظام. وهى كيانات جماهيرية تعمل إما على مقاومة أو كسر احتكار أطراف النظام لعناصر القوة فى المجتمع. من أمثلة هذه الكيانات النقابات والتعاونيات وجمعيات العمل الأهلى ومنظمات المجتمع المدنى. صحيح أن هذه الكيانات موجودة بالفعل فى المجتمع بشكل أو بآخر ولكن وجودها فى حد ذاته لا يعنى أنها بالفعل أدوات جماهيرية فى الصراع. فى الواقع يمكن لهذه الكيانات جميعا أن تكون على العكس من ذلك بمعنى أن تكون أدوات للسلطة فى الصراع. هناك عوامل عدة تحدد أن تكون هذه الكيانات أداة لطرف دون الآخر أو أن تكون بلا دور على الإطلاق. أهم هذه العوامل هو الاستقلالية التامة لهذه الكيانات عن السلطة. ضمان هذه الاستقلالية يبدأ بحرية تكوينها وعدم السماح للسلطة بالتدخل فى تحديد البناء الداخلى لها أو طريقة تنظيمها لشئونها وألا يكون للسلطة حق حلها أو وقفها عن العمل إلا فى حالات محددة حصرا وليس على سبيل التقدير.

 

ولكن ضمان استقلالية كيان جماهيرى لا ينتهى عند حرية التكوين والعمل وحسب. البناء الداخلى لهذه الكيانات يحكم إن كان يمكنها الحفاظ على استقلاليتها. الكيانات الهرمية التى تنبنى من أعلى إلى أسفل وتتركز سلطة اتخاذ القرار فى أعلاها، يسهل دائما احتواؤها من قبل طرف أو أكثر من أطراف النظام بسبب تقارب مصالح قمة الهرم فيها مع مصالح هذه الأطراف. وحدها الكيانات التى تنبنى من أسقل بإرادة القاعدة المكونة لها وتظل سلطة اتخاذ القرار فيها بين يدى هذه القاعدة، تظل معبرة عن مصالح من تمثلهم ولا يمكن إحتواؤها من قبل أى طرف على حساب هذه المصالح.

 

الاستقلالية بدورها ليست نهاية المطاف. هى فقط تضمن إمكان أن تؤدى الأداة دورها ولكنها لا تضمن أن تقوم فعلا بأداء الدور أو أن تؤديه بشكل ناجح. ما يمكن أن يضمن ذلك هو وضوح الرؤية. أن يدرك كل كيان جماهيرى طبيعة الصراع الجزئى الذى يخوضه بشكل مباشر ثم أن يكون هناك رؤية شاملة للصراع الأكبر على مستوى المجتمع ككل. تشكل هذه الرؤية ينبغى أيضا أن يتم من أسفل لأعلى وإلا فسيبقى محلقا فوق الصراعات الجزئية للناس على الأرض وغير قادر على التأثر بها أو التأثير فيها. إدراك كل كيان جماهيرى لطبيعة صراعه الجزئى هو نقطة البداية فى ذلك إذ يؤدى إلى إدراكه الحاجة إلى كسر إحتكار المعرفة إضافة إلى مهامه الأساسية. وحيث إن هذه المهمة تتطلب تعاون أكثر من كيان جماهيرى فإنها ستقود إلى تلاقيها وتبادلها للخبرة مما يخلق معرفة بديلة بالواقع وتفاصيله. هذه المعرفة هى مصدر الرؤية الشاملة للصراع، وبالتالى هى ضمان ألا تكون هذه الرؤية نظرية مجردة أو منفصلة عن تفاصيل العمل اليومى للكيانات الجماهيرية.

 

●●●

 

لابد من أن أعود إلى تكرار حقيقة أن الواقع دائما أكثر تعقيدا من تجريداتنا النظرية. ولا يمكن لطرح نظرى فى مثل هذا الإطار الضيق إلا أن يكون تجريديا وبشدة. يمكن فقط إزالة قدر من غموض هذا التجريد بتوسع لاحق فى توضيح ما يعنيه هذا الطرح فى الواقع العملى بالنسبة لكل نوع من أنواع الكيانات الجماهيرية التى سبق لى ذكرها. إضافة إلى ذلك يمكننى الزعم بأن المبدأ ذاته غير منفصل عن الواقع. فتجربتنا الحالية تثبت حقيقة فشل العملية السياسية فى حسم الصراع لصالح الغالبية وبالتالى تشير إلى حاجة هذه الغالبية إلى أن يكون لها أدوات بديلة تسيطر عليها بنفسها. تطوير هذه الأدوات فى اعتقادى هو السبيل الوحيد لأن يكون شعار «الثورة مستمرة» حقيقة واقعة وليس مجرد أداة دعاية للبعض أو موضع تهكم البعض الآخر. ما لا شك فيه هو أن الصراع مستمر وإما أن تستمر الثورة لإدارته أو أن ننتظر طوفانا لا نعلم متى يبدأ أو إلى أين سينتهى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved