عاشق النهار

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 26 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

فجأة وفى لحظة يشعر الإنسان أنه فقد شيئا أو شخصا كان طوال الوقت إلى جانبه، ويكون ذلك غالبا بعد فوات الأوان. نتلقف بدهشة نبأ شراء قطر مؤخرا لأعمال الفنان المصرى ــ الأرمينى، شانت أفيدانس، بملايين الجنيهات، ولكن بعد انتهاء المزاد، فى حين أن لوحاته كانت فى حوزتنا ولم يسمع عنه الكثيرون بخلاف المهتمين أو المتخصصين، رغم أن العديد من الفنانين الحاليين تأثروا به وبعضهم دأب على تقليد أسلوبه بألوانه الصاخبة وشخصياته المرحة. كذلك اكتشفنا يوما أن لوحة محمود سعيد «ذات العيون الخضراء» معروضة للبيع فى صالة مزادات كريستى بدبى بحوالى سبعين ألف دولار، بعد أن كانت تزين جدران السفارة المصرية فى واشنطن، وكانت الحكومة قد اشترتها بثلاثين جنيها فى خمسينيات القرن الماضى.. وهكذا أيضا تناولت بعض الصحف، فى شهر يوليو الماضى، خبر ضياع مجموعة من أعمال رائد التأثيرية المصرية ــ يوسف كامل ــ بعد سرقتها من فيللته بالمطرية التى كان قد استولى عليها حارس العقار، الحادثة وقتها أثارت اهتمام البعض، ولكن بمرور الأيام لم يعد أحد يسأل عن مصير هذا التراث المبعثر سوى الورثة الشرعيين، إذ عرض عليهم بعض الوسطاء إعادة شراء ما سُرق منهم (حوالى عشرين لوحة) بمبلغ وقدره.

 

●●●

 

مات الرجل أى يوسف كامل فى 1971، عن عمر يناهز الثمانين عاما، ويوافق اليوم 26 مايو، الذكرى الثانية والعشرين بعد المائة لميلاده، وقد عاش آخر عشرين سنة من حياته وحيدا فى مرسمه بالمطرية، تاركا أكثر من ألفى عمل، لأنه كان غزير الإنتاج ولا يعبأ بتسويق لوحاته، وبالتالى هناك مرحلة كاملة غير معروفة لدينا، وفى ظنى أنها من أجمل ما أبدع، رغم أن المرحلة التى يركز عليها النقاد عادة بوصفها قمة النضج لديه هى المرحلة الوسيطة ما بين 1930 و1960، بأسلوبه التأثيرى الذى يلتزم قواعد الظل والنور فيعطى إحساسا بانتشار الضوء فى اللوحة كلها، خاصة حين صور الحياة فى أزقة القاهرة الفاطمية ومناظر الحقول، إذ كان يمتلك مرسما فى حى القلعة وعاش فترة من شبابه بمنطقة باب الشعرية، فأصبح قريبا من روح الأماكن الشعبية وفنانا قاهريا بامتياز، بعيدا كل البعد عن فخ الاستشراق أو النعرات السياسية والتجاذبات الايديولوجية.

 

فى المطرية حيث استقر به الأمر بمنفاه الاختيارى ظل يرسم ويرسم كل ما يحيط به من جيران وفلاحين وغيطان وأسواق وبيوت تظهر وكأنها جزء من الطبيعة، وهى الموضوعات الأثيرة لديه.. بورتريه لعطيات فرج، جارته الرسامة والتى كان يناديها «بيانكا»، خادمته بجلابيتها الزرقاء والحمراء.. فهو لم يرسم قط بورتريها بناءً على طلب خاص لأحد الوجهاء أو أبناء الطبقة الأرستقراطية، بل شارك فى ثورة 1919 وكان من أوائل المكتتبين فى مشروع بنك مصر ويصر ألا يشترى احتياجاته سوى من شركة بيع المصنوعات لتشجيع المنتج الوطنى.

 

يستيقظ فى السادسة ليبدأ فى العمل من أعلى الشرفة بمنزله ويراقب سقوط الضوء على الأشياء حتى فترة الظهيرة، ثم يتوقف.. وقد خلق لنفسه عالما ممتدا على مدد الشوف فى حقول وأسواق المطرية وأسطح منازلها.. تتلاشى التفاصيل مع تقدم العمر، تصبح الخطوط أكثر بساطة والألوان صارخة وضربات الفرشاة غاضبة، مع استخدام كثيف للسكين.. حين يرسم «كلبه الأمين» مثلا نجد بقعة لون أو كتلة سوداء تتوسط اللوحة على خلفية حمراء فاقعة... يميل أكثر فأكثر إلى التعبيرية والتجريد مع فقدانه للبصر تقريبا، ولكنه يظل يرسم وهو يرى بصيصا خافتا من النور بعين واحدة، فقد أصابه داء السكرى واعتلت صحته، لكن أخذ يرسم وردا صاخبا إلى ما لا نهاية، تماما كما فعل رائد آخر من رواد التأثيرية وهو الفرنسى كلود مونيه عندما ظل حبيس مرسمه فى ضاحية جيفرنى بالقرب من باريس حوالى أربعين عاما حتى توفى فى 1926 وهو فى منتصف الثمانينيات، وعكف على رسم الطبيعة من حوله وحديقته المائية التى شيد بها جسرا على الطراز اليابانى وزهوره الشهيرة التى اختتم بها أعماله بعد أن فقد بصره تدريجيا.

 

●●●

 

لا أعرف هل عشق الضوء لهذا الحد يفقد البصر؟ فالعديد من الفنانين التأثيريين الذين فطنوا إلى سر الشمس وطاردوا النهار لتسجيل انطباعاتهم على اللوحة أصابهم ضعف البصر فى أواخر أيامهم ليتركوا لنا أعمالا تفتح أبواب الأساطير: ديجا أصابه العشى منذ سن الخمسين واضطر إلى تناول موضوعات لا تحتمل الكثير من التفاصيل، ومارى كاسا كانت تختتم خطاباتها بعبارة: «أعتذر لسوء الخط، فأنا أكتب لكن لا أستطيع قراءة ما أخطه»، لم تكن تميز الأشياء بعد عمليات متتالية فى العينين، لكنها ترسم وتسجل اللحظة الهاربة... أما رينوار فقد عانى من اعوجاج وتشوه فى اليدين بسبب مرض الروماتيزم، فظل يرسم وردا ملونا هو الآخر تحت وطأة الألم حتى مات، مثله مثل بيتهوفن الذى فقد السمع بالكامل خاصة فى العشر سنوات الأخيرة وكان يعتمد فى عزفه على إحساسه بذبذبات الموسيقى.. يوسف كامل كان ينتمى لهذه النوعية من البشر القادرة على تحويل المعاناة إلى زهور وألوان وموسيقى وفراشات تحترق عند اقترابها من النور، لم يعد منزل المطرية صالحا لاستقبال الزائرين أو تحويله إلى متحف، لكن من الممكن تخصيص قاعة لعرض أهم أعماله بمتحف الفن الحديث على سبيل المثال بعد شرائها من الورثة، وطباعة كتاب يذكر الناس بحكايته التى أوردنا القليل منها، بدلا من أن نفيق كالعادة بعد ضياع الأشياء ونكتفى بالبكاء والتحسر على ما فات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved