من فضلك.. تمهل قليلا

محمد القرماني
محمد القرماني

آخر تحديث: الأحد 26 مايو 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

فى الثمانينيات من القرن الماضى ظهرت حركة ثقافية أطلقت على نفسها Slow movement وترجمتها الحرفية هى الحركة البطيئة أو ما يمكن ترجمته بما يتماشى مع مضمونها بحركة التمهل. الفكرة الرئيسية لهذه الحركة ليس البطء كما يوحى اسمها، ولكن التمهل وإعطاء الوقت الكافى للقيام بمختلف الأنشطة الإنسانية، بحيث تكون الغاية هى إتقان العمل والاستمتاع بما يقوم به الإنسان وليس مجرد السرعة والإنجاز.

الدافع الرئيسى وراء ظهور تلك الحركة التى انطلقت من أوروبا وتحديدا إيطاليا وانتشرت فى العديد من البلدان كان مواجهة ثقافة السرعة التى بدأت تسود العالم وعلى الأخص الدول الصناعية المتقدمة منذ أواخر السبعينيات وطالت مختلف الأنشطة الإنسانية مثل الأكل والموسيقى والتعليم والملابس والمواصلات والعلاقات الإنسانية وغيرها. وتظل أبرز تجليات ثقافة السرعة هى الانتشار الواسع والكبير لمطاعم الوجبات السريعة التى تعتبر أحد مظاهر طغيان الفكر الرأسمالى الذى يعلى بشدة من القيم المادية والإنتاجية بشكل أصبح معه الشغل الشاغل للإنسان هو تعظيم كفاءة استخدام الوقت أى ادخار كل دقيقة من وقته لتوجيهها للعمل حيث يقاس النجاح بمدى قدرة الإنسان على توليد دخل أكبر، وبالتالى أصبح أى نشاط لا يدر دخلا أو عائدًا ماديًا مباشرًا غير ذات جدوى بما فى ذلك الأكل الذى أصبح لدى البعض مجرد وسيلة للبقاء. امتدت ثقافة السرعة أيضًا إلى قطاع الصناعات الغذائية الذى توسع بصورة غير مسبوقة فى إنتاج الوجبات الجاهزة والأكل المعلب سريع وسهل التحضير الذى أصبح حينذاك مطلب قطاع عريض من مواطنى الدول الصناعية، وذلك لانشغالهم بالعمل لساعات طويلة وعدم وجود رغبة أو وقت كاف لإعداد واستهلاك الطعام.

وعليه كانت الدعوة الرئيسية لحركة التمهل هى أن يعيش الإنسان حياة متزنة بحيث لا يتحول لآلة لا تتوقف عن العمل بل من المهم أن يقسم وقته بين العمل والترفيه والراحة، وبالتالى يكون لديه وقت كاف لتناول الطعام وممارسة الأنشطة الرياضية والثقافية والاستجمام والاهتمام بالهوايات الشخصية التى تقلل من الضغط العصبى والنفسى الناتج عن المشاكل المرتبطة بالعمل والمسئوليات المختلفة.

***
وعلى الرغم من مرور عقود على ظهور هذه الحركة «الثقافية» فإننى أعتقد أن هناك ما يدعونا فى مصر أن ننظر إليها بمزيد من الاهتمام فى الوقت الراهن؛ حيث شهدت مصر خلال العقدين الماضيين ــ وبصورة أكثر حدة السنوات الخمس الماضية ــ تغيرات اقتصادية كبيرة لها تداعيات اجتماعية وثقافية عميقة وهى بطبيعة الحال تدريجية قد لا يلاحظها البعض ولكن هناك الكثير من الشواهد الدالة عليها وأيضا سوابق المجتمعات الأخرى التى مرت بتجارب مشابهة لما نمر به. فمع ازدياد الضغوط الاقتصادية وارتفاع معدل اللا مساواة والتفاوت الكبير فى مستوى الدخول والثروات ومستويات المعيشة صار لدى الكثيرين تطلعات وطموحات كبيرة، وهو أمر منطقى ومشروع بطبيعة الحال، ولكن من الخطورة أن يتحول الإنسان إلى آلة وظيفتها الرئيسية جمع المال بغرض التباهى والتفاخر بما يملكه الفرد من ثروة وعقارات وملابس ذات ماركات عالمية وسيارات فارهة، بحيث تحولت وسائل تحقيق الراحة والسعادة إلى غايات فى حد ذاتها، وهو أمر سيجلب حتما التعاسة وعدم الرضا إذا لم ينتبه له الإنسان. لقد تسبب بريق الماديات واللهث والتكالب على جمع المال فى ارتفاع حالات التفكك الأسرى ومعدل الطلاق وضعف الروابط الاجتماعية واختفاء القيم والتقاليد المصرية المميزة، مثل التراحم والتكافل وعلى الأخص بين الطبقات الميسورة ماديا. كما يعتبر الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعى والاعتماد عليه كبديل للعلاقات الإنسانية الحقيقية أحد أبرز سمات التغير الاجتماعى والثقافى فى مصر ــ وغيرها من البلدان ــ حيث ضعفت الروابط الأسرية والعائلية بصورة واضحة، وأصبح العالم الافتراضى وعلى الأخص لدى الأجيال الجديدة هو الواقع والحقيقة، بينما تحولت العلاقات الإنسانية المباشرة والتواصل الطبيعى إلى جزء من الماضى، وفى هذا الصدد فقد أكدت دراسات عديدة أن قضاء وقت طويل على مواقع التواصل الاجتماعى يساهم فى التفكك الأسرى والعزلة الاجتماعية والاكتئاب.

***
فضلا عن ذلك نعانى فى مصر ومنذ زمن طويل من ثقافة الفهلوة و«الكروتة» لإنهاء الأعمال بأسرع وقت ممكن دون مراعاة لشكل ومضمون المنتج النهائى ومدى جودته ومطابقته للمواصفات الجيدة وهو ما يظهر بوضوح فى مستوى المنتجات المصرية بشكل عام وافتقارها للجودة التى تمكنها من المنافسة فى الأسواق العالمية، بالإضافة إلى ذلك نشهد بصورة شبه يومية تكرار الحوادث والأعطال فى المرافق العامة والتى تنتج عن الإهمال وقلة التركيز وعدم الاعتناء باتباع أصول وشروط السلامة المهنية. ولا تنطبق تلك الثقافة على الأعمال الحرفية فحسب بل أصبحت أيضا السمة الرئيسية لدى الكثير من المهنيين وأصحاب الأعمال والمثقفين أيضا حيث النجاح يقاس بالكم وليس بالكيف وخير دليل على ذلك هو التردى الواضح فى مستوى التعليم والإنتاج الفنى والأدبى والثقافى خلال السنوات الماضية بصورة تهدد مكانة مصر الثقافية والعلمية فى محيطها الإقليمى.

إن هذا المقال لا يدعو للكسل أو التقاعس عن العمل بل على العكس هو دعوة لإتقان العمل والاستمتاع به والاعتناء بالكيف على حساب الكم، والتذكير بأهمية أن يعيش الإنسان حياة متزنة مقسما وقته بين العمل والراحة والترفيه وإدراك أن نشاط الفرد فى سوق العمل هو جزء ودور واحد من حياته يجب ألا يطغى أو يؤثر سلبا على أدواره الأخرى كإنسان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved