من قرب وعن بعد.. التعليم الجامعى فى مصر الآن

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 26 مايو 2020 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

أربعة تحديات رئيسية للتعلم عن بعد تمثل ما يمكن أن نطلق عليه كلاسيكيات هذه العملية، والتى ربما لم تطرح للنقاش بصورة كافية فى إطار التعجل فى تحويل التعليم من داخل قاعات الدرس إلى قاعات أخرى مفترضة. التحدى الأول هو القدرة على التعامل مع التقنية.. هل لدينا معلومات عن الأمية الرقمية والفجوة الرقمية فى مصر ومدى ارتباطهم وتأثيرهم على التفاوتات الاجتماعية؟ وهل ما لدينا يعتمد عليه؟!. لا أشك أن لدينا فجوة رقمية، ولكن المشكلة أن هناك فجوة ولكن من نوع آخر تعنى أساسا بغياب أو ندرة الأرقام المبنية على أبحاث يمكن الوثوق بها. أما التحدى الثانى فيتناول الجوانب التقنية ومنها لغة المحتوى «فبالرغم من أن اللغة العربية تأتى فى المرتبة السادسة عالميا من حيث الانتشار، لكنها تحتل الترتيب رقم 113 بين 140 لغة على شبكة الإنترنت بنسبة لا تتعدى 3%» طبقا لأحد الدارسين. ومن تلك الجوانب أيضا البنية الأساسية التى تمكن الناس من التواصل الفعال فى الأوقات المختلفة، وربما يمكن لجهاز تنظيم الاتصالات أن يصدر تقريرا يوضح البنية الأساسية لدينا وجودة الوصول إليها ومن هم هؤلاء الذين يعانون أكثر حتى يمكن تصميم تدخلات تستهدف تحسين الحال إلى وضع آخر أكثر قبولا. ويتناول التحدى الثالث إدارة الوقت وهو ما يتطلب بالطبع قدرة فردية تنظيمية ولكن أيضا قدرة تضع التداخلات المحتملة فى الاعتبار لكى يتمكن المعلمون والمتعلمون من تلافى ضياع الكثير من الوقت بلا فائدة. ويتناول التحدى الرابع الدافع الشخصى الذى يقف وراء التعامل الجدى والذى يؤدى إلى الفائدة المرجوة.
***
لا يمكن طبعا إغفال تأثير التفاوت الاقتصادى والأبعاد الجغرافية فى التأثير غير المتساوى للتحديات السابقة فى عملية التعليم عن بعد، وبالرغم من أننى طبقا لما أعرفه عن كليتى فقد تم تمكين النسبة القليلة التى كانت لديها بعض المشكلات فى هذا الإطار. وبالرغم من أنه ليس لدى معلومات وأرقام عن الكليات الأخرى بالجامعة، فأنا أيضا أعرف عن حملات جماعية لدعم طلاب الجامعات فى بعض الأقاليم وأتمنى بالطبع أن يكون هناك من هو مهتم بجمع تلك البيانات التى ولا شك ستساعد فى التخطيط لتعليم مستدام عن بعد للجميع لأن الحاجة له ربما ستستمر لبعض الوقت.
يجادل بعض خبراء التعليم العالى عن بعد مثل وليام دردن بأنه من الضرورى أن يحتوى التعليم عن بعد على خواص الفصل التقليدى حتى يكون ناجحا. وهو يرى أن واحدا من أهم ما ينتجه التعليم هو «التأثير» فى شخص المتعلم. كما يرى أن المتعلمين فى الغالب يتعلمون وسط مجموعة من الطالبات والطلاب ويتبادلون معهم الأفكار بالإضافة إلى تأثيره على الدافع للتعلم لديهم. والسؤال الذى يطرحه هو كيف يمكن للتعليم عن بعد أن يستخدم من الأدوات التى تمكن الطالبات والطلاب من تمثيل تلك الجوانب المهمة للغاية فى التعليم.
أثرت العجلة التى تسببت بها انتشار الجائحة على الجودة المرجوة للتعليم عن بعد وهذه ظاهرة ليست حكرا علينا فى مصر فقط.. ولكن ما يقلقنى أن تدور أغلب الأحاديث فى الجامعة حول الأبعاد التقنية لهذا التحول ومع القليل من الإشارة إلى أهمية التعامل مع هذا التحول بصورة أكثر عمقا، ربما بالصورة التى تمكن مؤسساتنا من تحقيق تقدم وإضافة حقيقية وليس تغييرا شكليا.
***
لاشك أن التعليم عن بعد يمثل تحديا لنا جميعا وخاصة للأساتذة والطلاب الذين يدرسون مواد تتطلب استخدام المعامل أو زيارات حقلية أو الكشف على المرضى أو إجراء أنواع أخرى من التجارب. ولأننى أشتغل بتدريس ما هو مرتبط بالواقع الذى نعيش فيه، فقد بدأت منذ سنوات عديدة أعتمد بصورة كبيرة على المحاضرات والنقاشات فى الأماكن ذلت الصِلة وهو ما ينقل التعليم إلى خبرة متعددة الحواس. وربما أكثر ما يسعدنى دائما فى تلك العملية أن الطلاب الذين ينفرون أحيانا من القراءة الجادة العلمية يبدءون بالسؤال عما يجب عليهم قراءته بعد عدة مرات من زيارات ونقاشات فى الأماكن المختلفة، حيث تتحول تلك الأماكن من مجرد خطوط مجردة على صفحة بيضاء على شكل خريطة إلى بشر ومركبات ومسطحات مائية وأشجار وقطع أثرية وصحراء. وربما لا تبدو تلك الأجزاء بالصورة المثالية، ولكنها حقيقية بروائحها وأصواتها ويصبح من الصعب أن تفلت من ذهنك.
أنا شخصيا أفتقد النقاش المباشر ورؤية التساؤلات أو الشك أو انفعالات أخرى فى أعين الطالبات والطلاب وردود الأفعال المختلفة الأخرى. أفتقد الأماكن التى اعتدت استخدامها بدلا من قاعة المحاضرات لتفعيل الحواس الإنسانية المتعددة وتشجيع خلق الروابط المباشرة وغير المباشرة بين التعليم والحياة. أفتقد الإثارة الناشئة من التفكير فى مواقف تحمل بداخلها أكثر مما أعددت نفسى لنقاشه مع الطالبات والطلاب وبالتالى احتياجى المستمر للتفكير وإعادة التفكير والبحث فيما يطفو على سطح النقاش أو فيما يختبئ فى ما وراء ظاهره. أنتج ذلك بيئة تعليمية مزدوجة الاتجاه فأنا أتعلم من طالباتى وطلابى وأحاول أن أعلمهم. فى تناولنا لموضوعات الدراسة نتناول فى الغالب بيئات غنية للغاية بأبعادها الجغرافية المكانية والزمانية التاريخية تشكل ليس فقط سياقا لتك العملية ولكن أحد مكوناتها الأساسية، وما أجده مرضيا على الدوام ما أشعر به من تأثير وما أشترك فيه من نقشات ربما يستمر بعضها لسنوات.
فى الجوهر سؤال عن ماهية التعليم وهدفه ودوره فى ازدهار الإنسان والمجتمع، وهذا السؤال، وإن كان فى أحد جوانبه سؤال عالمى، لكنه أيضا سؤال محلى يجب أن يعطى قدرا واجبا من النقاش والدراسة ليس من خبراء التعليم العالى فقط ولكن أيضا، وبصورة مهمة جدا، بمشاركة الأساتذة والطلاب والإدارة وربما أيضا بمشاركة أطراف أخرى فى المجتمع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved