البيانات قوة

صحافة عالمية
صحافة عالمية

آخر تحديث: الخميس 27 مايو 2021 - 10:37 ص بتوقيت القاهرة

نشرت مجلة فورين أفيرز مقالا للكاتبين ماثيو سلوتر ودايفيد ماكورميك تناولا فيه البيانات كعنصر أساسى من عناصر القوة فى الوقت الحالى؛ حيث إن الدولة التى تمتلك البيانات تمتلك القوة الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية، وتناول الكاتبان مشكلة غياب إطار عالمى ينسق تعاون الدول فى مجال البيانات ومواجهة ما تحمله من تحديات وهو ما يخلق فجوة قد تستغل من قبل النظم السلطوية.. نعرض منه ما يلى.
تقع البيانات حاليا فى مركز التجارة العالمية، فالاقتصاد العالمى أصبح عبارة عن آلة للبيانات دائمة الحركة؛ تستهلكها وتعالجها وتنتج المزيد منها. تجارة التكنولوجيات الرقمية بالبيانات تسمح بعمليات التجارة التقليدية من السلع والخدمات، أو يمكن القول بأنها استبدلتها. الأفلام يتم بثها الآن على المنصات الرقمية، والأخبار والكتب والأبحاث العلمية يتم الوصول إليهم عن طريق الإنترنت. حتى البضائع المادية تأتى بمكونات رقمية؛ فالسيارات على سبيل المثال ليست فقط عبارة عن هياكل بل تحتوى على إلكترونيات وبرامج تلتقط كميات هائلة من البيانات، وحاويات الشحن بها أجهزة وبرامج تتعقبها وينتج عنها بيانات تحسن من كفاءتها. وأتى وباء كورونا ليسرع من عملية التحول الرقمى للشركات.
لا تظهر التجارة الرقمية وتدفق البيانات عبر الحدود أى علامات على التباطؤ. فى عام 2018، أجرى 330 مليون شخص عمليات شراء عبر الإنترنت من دول أخرى، كل منها يتضمن نقل البيانات عبر الحدود، مما ساعد التجارة الإلكترونية على تحقيق مبيعات تصل إلى 25.6 تريليون دولار، على الرغم من أن حوالى 60 فى المائة فقط من العالم متصل بالإنترنت. بالطبع ستساعد تقنية الجيل الخامس على زيادة سرعة نقل البيانات وكمياتها، وإنترنت الأشياء يزيد من اتصال الآلات بعضها ببعض.
هذه التغيرات لا تحدث تحولات فى التجارة فقط، بل أيضا فى السياسة العالمية. من بين العناصر المختلفة، فالمعلومات هى الأكثر ارتباطا بالقوة. فالمعلومات عنصر أساسى للاختراع، وعنصر أساسى لتوسيع التجارة العالمية، وتعطى الكثير من المزايا لمن يمتلكها. ومن السهل إساءة استخدامها، فالدول أو الشركات التى تحاول الحفاظ على مزاياها التنافسية تحاول التحكم فى البيانات، كذلك الذين يحاولون تقويض الحريات والخصوصية.
ولكن، على الرغم من زيادة تدفق البيانات عبر الحدود، وما تحمله البيانات من قوة، إلا أنها تظل غير خاضعة للقوانين. إطار التجارة والاستثمار الدولى الحالى صمم منذ 75 عاما ولا يلائم واقع التجارة العالمية الآن. يسود الارتباك حول قيمة البيانات وملكيتها، والقوى العالمية الكبرى لها رؤى متنافسة حول كيفية إدارتها. وإذا لم تضع الولايات المتحدة قواعد جديدة للعصر الرقمى، فسيقوم آخرون بذلك. فالصين على سبيل المثال أدركت أن تشكيل قواعد القوة الرقمية عنصر أساسى فى المنافسة الجيوسياسية، لذلك تروج لنموذجها من السلطوية التكنولوجية.
***
الإمكانات الاقتصادية للبيانات تكمن فى أنها «غير منافسة». فالسلع عامة تعتبر تنافسية، استخدامها من قبل شخص يحول دون استخدامها من قبل شخص آخر. لكن البيانات غير منافسة، ويمكن استخدامها بشكل متزامن ومتكرر من قبل أى عدد من الشركات أو الأشخاص دون أن تتضاءل. الفكرة السائدة بأن «البيانات هى النفط الجديد» تغفل هذا الاختلاف الاقتصادى الأساسى بين السلعتين. يمكن للبيانات أن تدعم الابتكار مرارًا وتكرارًا دون أن تستنفد. ولذلك كلما زادت حرية تدفقها، زادت احتمالية إطلاق أفكار جديدة. طريقة مشاركة البيانات للتوصل للقاح كورونا يعد مثالا على ذلك.
النجاح التجارى تقوده البيانات، فلم يعد الأمر كالسابق حينما كانت تسيطر شركات النفط ومنتجى الغاز والسلع الاستهلاكية والبنوك على قائمة الشركات الأعلى قيمة، ولكن أصبحت شركات التكنولوجيا التى تتعامل مع البيانات هى المهيمنة على القائمة مثل أمازون وفيسبوك، وهى شركات تحول مليارات البيانات من الأفراد والمؤسسات إلى قيمة اقتصادية جديدة لعملائهم.
البيانات مهمة أيضا للأمن القومى. فهى تزيد من الإنتاجية والقوة الاقتصادية وبالتالى التفوق العسكرى، وقد أصبحت مجالا رئيسيا فى التنافس الأمريكى الصينى على التفوق الاقتصادى والجيوسياسى. فالدولة التى تستطيع تسخير البيانات للوصول إلى ابتكارات جديدة بسرعة ستمتلك مميزات هائلة.
***
المؤسسات الدولية الحالية غير مجهزة للتعامل مع ضخامة أعداد البيانات، ولا تمتلك آليات تصلح من الأخطاء التى تقترف عند التعامل معها. فإطارهم المؤسسى بنى فى وقت كانت التجارة فيه تصنف وفقا لمعيارين؛ الأول سلع أو خدمات والثانى تحديد بلد المنشأ. تتحدى البيانات هذا التصنيف؛ فالكميات الهائلة من البيانات الموجودة على الإنترنت عن المنتج قبل شرائه هى عواقب غير مسعرة لإنتاج واستهلاك السلع والخدمات الأخرى، وأيضا أصبح من الصعب تحديد مكان المنشأ.
عدم وجود إطار مقبول عالميا يحكم البيانات يترك الكثير من الأسئلة غير مجاب عنها حول الاقتصاد العالمى والأمن القومى وحماية خصوصية الأفراد وحقوقهم الاقتصادية والسياسية والإنسانية. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى لا يتفقان على إطار محدد وهو ما يضر التعاون فى التجارة والاستثمارات والأمن القومى، فبدون وجود أساليب مشتركة لإخفاء هوية البيانات لحماية الخصوصية الشخصية، ستنتهك الحقوق الأساسية وسنفقد ما تقدمه البيانات الشخصية من مميزات. مع غياب المواقف المتماسكة، فإن الدول والتكتلات التجارية ترتجل كل على حدى، ما يترك عالم اليوم مع مجموعة غير متسقة من الأنظمة.
تضمنت الصفقات التجارية الإقليمية الأخيرة العديد من الأحكام المتعلقة بالبيانات والتجارة الإلكترونية. شدد الاتحاد الأوروبى من القوانين التى تتعلق بحماية البيانات فى اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR. تحاول اللائحة تمكين الأفراد من تحديد كيفية استخدام الشركات لبياناتهم، لكن العديد من الأشخاص أعربوا عن مخاوفهم من أن اللائحة قد وضعت حواجز تجارية للشركات الأجنبية العاملة فى دول الاتحاد الأوروبى من خلال المطالبة بالامتثال للكثير من الإجراءات المكلفة ورفع مخاطر السوق الأوروبية. علاوة عما تخضع له قواعد الاتحاد الأوروبى من نزاع وتقاضٍ مستمر.
أما فى الصين، فقد بدأت منذ عقد مضى بناء ما أسمته «جدار الحماية العظيم» وهو مزيج من القوانين والتكنولوجيات التى تقيد تدفق البيانات داخل وخارج الصين، جزء منه يتم من خلال حظر المواقع الأجنبية. هذا النموذج يسهل ولوج الدولة للبيانات المولدة داخلها ومراقبتها. تسعى بكين إلى توسيع هذا النموذج من خلال شبكة الجيل الخامس ومن خلال طريق الحرير الرقمى ومبادرة الحزام والطريق، مما سيسهل من وصول الصين للبيانات من خلال بناء البنية التحتية للإنترنت خارج أراضيها وتعزيز التجارة الرقمية.
***
الصين لديها رؤية للعصر الرقمى، أما الولايات المتحدة فلا. ونظرًا إلى أن البيانات غير منافسة، تلك الدول التى ستفشل فى الوصول إليها واستخدامها ستخسر الكثير. فكمية البيانات التى تتمكن الدولة من الوصول إليها تخلق لها ميزة انتاجية مستدامة.
يجب أن تساعد الولايات المتحدة فى صياغة إطار عمل جديد متعدد الأطراف للبيانات وخلق بنية للبيانات تعزز من إمكاناتها الاقتصادية الهائلة دون أن تضحى بالخصوصية والحرية الفردية. يجب أن يأخذ هذا الإطار شكل معاهدة من جزأين رئيسيين.
الجزء الأول من الإطار يتضمن وضع مجموعة من المبادئ الملزمة التى من شأنها أن تعزز تدفق البيانات عبر الحدود فى القطاعات التى تمتلك بيانات كثيفة مثل الطاقة والنقل والرعاية الصحية؛ أول هذه المبادئ تتعلق بكيفية تقييم البيانات وتحديد مكان إنشائها. مبدأ آخر من شأنه تحديد معايير الخصوصية التى يتعين على الحكومات والشركات اتباعها لاستخدام البيانات. والمبدأ الأخير يتمثل فى تعزيز أكبر قدر ممكن من تدفق البيانات الحر عبر الحدود، مثل عدم فرض ضرائب على تدفق البيانات، وسيكون من الحكمة التأكد من أن أى آثار سلبية للتدفق الحر للبيانات، مثل فقدان الوظائف أو انخفاض الأجور، يتم تعويضها من خلال برامج قوية لمساعدة العمال المتضررين على التكيف مع الاقتصاد الرقمى. الجزء الثانى من الإطار سيكون اتفاقيات التجارة الحرة التى تنظم السلع والمدخلات الوسيطة والسلع والخدمات النهائية للقطاعات المستهدفة، كل ذلك فى محاولة لتعظيم المكاسب التى قد تنشأ من الابتكارات القائمة على البيانات.
هناك بالفعل مثال قوى على مثل هذه الاتفاقات. فى عام 1996، صادقت عشرات الدول التى تمثل ما يقرب من 95 فى المائة من التجارة العالمية فى تكنولوجيا المعلومات على اتفاقية تكنولوجيا المعلومات، وهى اتفاقية تجارية متعددة الأطراف فى إطار منظمة التجارة العالمية ألغت جميع التعريفات الجمركية لمئات السلع المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والمدخلات الوسيطة والمنتجات النهائية– مثل لوحات التحكم الرئيسية.
فى هذا الوقت الذى يسود فيه عدم اليقين بشأن مستقبل المؤسسات الدولية والتزام الولايات المتحدة بها، فإن إنشاء هذا الإطار من شأنه أن يجلب لواشنطن العديد من الفرص: لتعزيز شراكتها مع الدول ذات التفكير المماثل، وإصلاح وتجديد المؤسسات، وتعزيز قوة اقتصادها وأمنها القومى. فى الواقع، يمكن أن يشكل هذا الإطار عنصرا هاما فى رؤية متجددة لدور الولايات المتحدة فى العالم لا يغفل المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة وتدعم قيادتها.
إذا ثبت صعوبة إنشاء إطار بيانات دولى، يمكن لواشنطن وشركائها البناء على الجهود الحالية لمعالجة تدفق البيانات والأمن. فى عام 2020، أنشأت إدارة ترامب «الشبكة النظيفة» لتعزيز مشاركة البيانات خارجيا، وتمكين الابتكار المحلى، وحماية خصوصية البيانات. وقبلها بعام أطلق قادة مجموعة العشرين رؤية مسار أوساكا من أجل «التدفق الحر للبيانات»، وهى مبادرة لإنتاج إطار عمل دولى متماسك للبيانات. يمكن للولايات المتحدة أيضًا أن تبنى على التحالف الرباعى (كواد) الذى يضم أمريكا وأستراليا والهند واليابان لتعزيز الأهداف المشتركة للابتكار والأمن. لكن هذه مجرد إجراءات مؤقتة. ما تحتاجه أمريكا حقا هو إطار عالمى جيد متماسك.
إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved