الطيبون والأشرار

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الخميس 27 مايو 2021 - 10:41 ص بتوقيت القاهرة

أعز وأسعد ذكرياتى هى أيام كنت أصطحب ابنتى الطفلة إلى السينما وعند مشهد للعنف أجدها تشد يدى وتهمس فى أذنى فى ظلام الصالة «بابا الراجل ده طيب ولا شرير!» وتمضى الأيام وتكبر الطفلة البريئة لتصبح زوجة وأما وأستاذة ولم تسألنى الفرق بين الطيب والشرير بعد أن أنضجتها الخبرة والحياة وغدت قادرة على التمييز بينهما دون سؤال. أما أنا، فبعد أن وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا صرت حائرا عاجزا عن التفرقة بين الطيب والشرير!
عشت عمرى فخورا مباهيا بأسلافى الفراعنة العظام الذين أرسوا دعائم الحضارة فى العالم وكانوا منارة للفن والمعمار والفلك والطب والعلوم. سقنن رع أول شهيد من أجل مصر وأحمس طارد الهكسوس، تحتمس الثالث عبقرى العسكرية فى العصر القديم، حتشبسوت الملكة العظيمة صاحبة الرحلات البحرية إلى بلاد بونت ورمسيس الثانى المحارب وبانى الصروح العظيمة.
وقرت فى نفس المصرى الفطرى البسيط تبجيل أجداده العظام حتى إن الفلاحين البسطاء اصطفوا على ضفتى النيل منذ 120 سنة يلوحون ويشيعون ملوكهم عندما مرت الباخرة التى حملت مومياواتهم بعد اكتشافها فى خبيئة الدير البحرى لنقلها إلى المتحف المصرى فى القاهرة فى عام 1882. وعندما كرمنا جداتنا وأجدادنا العظام بموكب يليق بهم وبمصر أثناء نقلهم إلى مقرهم الجديد فى متحف الحضارة، موكب أبهر كل من تابعه فى جميع أنحاء العالم. خرج علينا صوت نشاز ينعق كيف نكرم هؤلاء الأشرار الكفرة أعداء الله.
***
قبل هذا خرج علينا أكاديمى وأديب له كتب رائجة بأن رمز البطولة الإسلامية والعربية صلاح الدين الأيوبى محرر بيت المقدس هو من أحقر الشخصيات فى التاريخ!!
صلاح الدين الذى شهد له أعداؤه الذين حاربهم بالسيف بنبله وفروسيته والذى شجع وأحيا العلوم والتنوير، وضعه واحد منا فى خانة الأشرار.
وفى عام 1901 نشرت صحيفة اللواء المملوكة للحزب الوطنى ورئيسه مصطفى كامل قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى يهجو فيها أحمد عرابى عند عودته من المنفى عجوزا فانيا وقد كف بصره. أحمد عرابى الذى طالب بحق مصر والشعب المصرى فاستنجد الخديوى بالإنجليز ودخل القاهرة فى حماية الجيش الإنجليزى بعد هزيمة عرابى واحتفل بهزيمة جيش مصر بتوزيع الأوسمة والنياشين على الضباط الإنجليز. فهل عرابى من الطيبين أم من الأشرار؟ وهل مصطفى كامل وأحمد شوقى من الطيبين أم من الأشرار؟
مصطفى النحاس الذى قلنا عنه يوما أنه زعيم الأمة الذى وقع من أجل مصر معاهدة 1936 ثم عاد فألغاها سنة 1950 أيضا من أجل مصر، ألقينا القبض على من شارك فى جنازته وهتف باسمه فى عام 1965.
قامت الثورة عام 1952 واستقبل الشعب اللواء محمد نجيب بالترحاب وهتفوا باسمه وحملوه على الأعناق وغنت ليلى مراد كلماته التى اتخذها شعارا للعهد الجديد «الاتحاد والنظام والعمل» الرجل ذو الوجه الصبوح الذى أحببناه لبطولاته فى حرب فلسطين التى جرح فيها ثلاث مرات ولشجاعته فى مواجهة مرشح الملك فى انتخابات نادى الضباط ثم اكتشفنا لاحقا أنه من الأشرار فاعتقلناه لمدة 15 سنة! ثم عدنا فردينا اعتباره وأطلقنا اسمه على محطة مترو أنفاق وقاعدة عسكرية. ثم جاء جمال عبدالناصر وغنت له أم كلثوم يا جمال يا مثال الوطنية وغنى له عبدالوهاب ناصر كلنا بنحبك ومات جمال عبدالناصر فصورنا عهده فى أفلام الكرنك والبرىء واحنا بتوع الأوتوبيس لنجعله من الأشرار.
وجاء السادات وغنى له عبدالحليم عاش اللى قال الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب لكننا لم ندعه يعيش وقتل وهو يحتفل بالنصر. ومبارك الذى قاد الضربة الجوية ونسبنا له النصر، لعناه وحاكمناه وحبسناه.
لم يسلم القادة العرب من تأرجحنا بوضعهم بين الطيبين والأشرار فلا زلت أذكر فرحتنا بثورة العراق 1958 التى أسقطت الملكية وسقط معها حلف بغداد ومشروع أيزنهاور.
الثورة التى غنت لها أم كلثوم القصيدة الرائعة التى كتبها محمود حسن إسماعيل ولحنها رياض السنباطى «بغداد يا قلعة الأسود يا كعبة المجد والخلود» واعتبرنا عبدالكريم قاسم قائد الثورة بطلا قوميا عظيما لكننا ما لبثنا أن دخلنا فى صراع وعداوة معه إلى أن انقلب عليه رفاقه وأعدموه دون أن نذرف عليه دمعة واحدة لأنه من الأشرار.
أذكر فرحتنا بثورة ليبيا وكيف استبشرنا بقائدها الشاب معمر القذافى وكيف رأينا فيه عبدالناصر يبعث شابا لاستكمال مسيرة القائد الذى أضنته النكسة وأنهكه المرض وأقمنا معه دولة وحدوية جديدة: اتحاد الجمهوريات العربية، وغيرنا من أجله اسم بلدنا مرة ثانية من الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية ثم اكتشفنا لاحقا أنه من الأشرار ولم نذرف دمعة عليه عندما قتل ومثلت بجثته.
فرحنا بالنميرى فى السودان وأقمنا معه مشروع التكامل وصار التنقل بين مصر والسودان دون جواز سفر وأقمنا برلمان وادى النيل ثم انقلب علينا ولم نذرف عليه دمعة عندما انقلب عليه جيشه. وفرحنا بالبشير وظنناه من الطيبين الأخيار فإذا به يتآمر لقتل رئيسنا فى إثيوبيا وعرفنا أنه من الأشرار!
***
كيف يحدث هذا؟ كيف يخيب ظننا فى الأخيار؟ كيف نعجز عن التفرقة بين الطيبين والأشرار حتى بات يتساوى الطيب والشرير فى أعيننا بشكل يذكرنا بالمشهد الأول من مسرحية ماكبث حين تنشد الساحرات الثلاثة:
Fair is foul and foul is fair الخير شر والشر خير!
لعلنا نتعجل فى الحكم وفى تصنيف الناس لمجرد حدث منفرد دون تحليل موضوعى وتاريخى مع انعدام الشفافية مما يعيق الرؤية الصحيحة وغياب قواعد المعلومات والدراسات التأريخية التى تساعدنا على الحكم، ولعله أيضا غياب النضج الذى ندرك من خلاله أنه لا يوجد طيبون بشكل مطلق وأشرار بشكل مطلق. ولكن حياة الإنسان سلسلة من المواقف يتعامل معها فيكون طيبا فى نظر الناس وفى توقيت معين ويكون شريرا فى نظر غيرهم.
شىء محير يجعلنى أفتقد والدى الذى ترك عالمنا منذ عشرين عاما وأكاد أهتف مناديا «بابا بابا الراجل ده طيب ولا شرير».
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved