إنفلونزا الإسفاف اللفظى

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الجمعة 26 يونيو 2009 - 6:23 م بتوقيت القاهرة

 تلقيت رسالة مسكونة بالاستهجان والغضب من قارئة «صدمت» حينما تابعت التعليقات غير اللائقة التى صدرت أثناء مناقشة البرنامج التليفزيونى «القاهرة اليوم» لما نسب إلى المنتخب المصرى لكرة القدم من ممارسات ليلة فوزه على إيطاليا. قالت صاحبة الرسالة إن شعورا بالقرف والخجل انتابها حين تابعت مع أولادها حلقة البرنامج، لأن المفردات والمصطلحات التى استخدمت فى الحوار الذى دار حول الموضوع هبطت بمستواه وجاءت جارحة للذوق والحياء العام.

هذا الانطباع سمعته من آخرين أعرفهم، لكنى لا أخفى أننى لم أفاجأ به كثيرا. صحيح أن دائرة الاستياء كانت كبيرة لأن البرنامج واسع الانتشار ومقدمه ذائع الصيت، لكنى تعاملت مع الواقعة باعتبارها من تجليات ظاهرة التدهور فى الأداء الإعلامى بوجه عام. ويحزننى أن أقول أن ذلك التدهور يعكس تدنيا مماثلا فى لغة التعامل والحوار فى مجالات أخرى. وقد وقعت على رسم كاريكاتورى معبر عن هذا المعنى نشرته صحيفة «الوفد» يوم الأربعاء الماضى 24/6، ظهر فيه مراسل إذاعى وهو يخاطب مقدم برنامج «القاهرة اليوم» قائلا له: يبدو أنك من المواظبين على متابعة جلسات مجلس الشعب التى عقدت فى الآونة الأخيرة (وهى الجلسات التى تبادل فيها بعض أعضاء المجلس عبارات غير لائقة فى التراشق اللفظى فيما بينهم).

إذا جاز لى أن أضيف شيئا إلى ذلك التعليق، فلعلى أقول إن صاحبنا ربما كان أيضا من مشاهدى الأفلام السينمائية الجديدة الحافلة بالعبارات النابية، ومن الحريصين على قراءة الصحف اليومية، التى أصبح بعضها مدرسة تلقن الناس أساليب الإسفاف والانحطاط فى التعامل مع المفردات والمعانى. ولست أخفى من جانبى أن الصدمة التى استشعرتها القارئة حين جرحت أذنيها الكلمات التى سمعتها فى البرنامج التليفزيونى، باتت تنتابنى حين تقع عيناى على لغة الحوار بين الزملاء المشتبكين فى بعض الصحف. ومما له دلالته فى هذا الصدد أن من بين تلك الصحف ما هو محسوب على أجنحة الحزب الحاكم ورموزه، الأمر الذى يعنى أن تلك اللغة الهابطة تحظى بالقبول والمباركة من بعض قيادات الحزب على الأقل.

لا يقف الأمر عند هذا الحد، لأننا إذا وسعنا من زاوية الرؤية، بحيث لا يقتصر تركيزنا على ما تتداوله وسائل الإعلام رغم أنها الأكثر ظهورا والأقوى تأثيرا فستكون المفاجأة أكبر. فإذا تابعنا مثلا مستوى الحوار والتراشق اللفظى السائد فى الجمعيات العمومية لبعض النقابات المهنية أو النوادى الرياضية، أو حتى بعض المؤسسات الاقتصادية، فسوق نكتشف أن البلاء أعم كثيرا مما نتصور، وإذا استخدمنا مفردات المرحلة فذلك يسمح لنا بأن نقول إن «إنفلونزا الإسفاف اللفظى» قد توطنت فى مصر خلال السنوات الأخيرة. وما سمعه البعض فى البرنامج التليفزيونى وما يصادفهم فى غير ذلك من مجالات العمل العام هو مجرد أعراض لذلك الوباء، الذى استنبتناه فى الداخل ولم يفد إلينا من الخارج.

هل نذهب بعيدا إذا قلنا أننا بصدد ظاهرة تداخل فيها الفلتان مع التحلل، أسفرت عن غياب الضوابط وانهيار تقاليد وآداب الخطاب؟.. وهل يجوز لنا أن نقول بإن انقطاع سبل الحوار الرشيد بين السلطة والمجتمع، وبين فئات المجتمع بعضها مع بعض أسهم فى ذلك التدهور؟.. وهل نذهب فى تفسير الظاهرة مذهب عبدالرحمن الكواكبى فى كتابه عن «طبائع الاستبداد» حين حمّل الاستبداد المسئولية عن التدهور الذى يصيب علاقات الناس وأخلاقهم؟

يحتاج الأمر إلى دراسة معمقة. ربما اهتدينا فيها بمقولة ابن حزم إن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال، الأمر الذى يدفعنا إلى سبر أغوار المشكلة. بما يمكننا من البحث عن حقيقة الذى اعوج فى حالنا حتى اعوجت ألسنتنا وتدهور مستوى خطابنا، حتى صرنا نخجل من أنفسنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved