مصداقية الحكومة تحت الاختبار أمام مجلس الدولة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 26 يونيو 2016 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

سوف يكون خطأ بالغا من جانب الحكومة أن تتعامل مع الحكم التاريخى الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى برئاسة المستشار «يحيى الدكرورى»، باعتباره حكم أول درجة فى التقاضى، وأن تتجاهل الحجج القوية التى طرحها سواء فيما يتعلق بادعاء عدم اختصاص القضاء الإدارى بالنظر فيما تعتبره من أعمال السيادة، أو فيما يتعلق بمصرية الجزيرتين.

والواقع أن صدور مثل هذا الحكم من مجلس الدولة، هو خطوة أولى نحو تجسيد أمل يراود كثيرين من المصريين، بل ولا تختلف عليه أغلبيتهم الساحقة، فى أن تتحول مصر إلى دولة مؤسسات، وهو الضمان الأساسى بأن نتجنب المأزق الداخلى والخارجى الذى أوقع مصر فيه أسلوب اتخاذ القرار فى موضوع الجزيرتين، وهو أسلوب فوقى وفردى، كانت ثورة 25 يناير احتجاجا عاليا ضده. طبعا لاشك فى أن وزارات الخارجية والدفاع والمخابرات العامة، شاركت فى اجتماعات لبحث موضوع ترسيم الحدود، ولكن القرار بتسليمهما للمملكة العربية السعودية لم يكن فى الغالب قرار هذه الأجهزة، فهى لا تملك سوى أن تعرض ما لديها من بيانات، ولكن القول الفصل فيما يجب عمله بناء على هذه البيانات هو قرار رئيس الجمهورية. ويتضح مما ذكرته روايات عديدة عن تاريخ إثارة هذه القضية فى العلاقات السعودية المصرية، أنها قد طرحت من قبل فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ولكن تعامله كان مختلفا، فكان يؤثر تأجيل حسم هذه المسألة.

سوف يكون خطأ بالغا من جانب الحكومة، أن تركن مرة أخرى إلى نظرية أعمال السيادة، لتنكر على قضاء مجلس الدولة اختصاصه بنظر هذه القضية، وذلك لسببين، أولهما إن تفسير فقهاء الحكومة لهذه النظرية هو تفسير عتيق لم يعد يتفق مع واقع فكرة سيادة الدولة فى حد ذاتها، وثانيهما إن الحجج التى طرحها حكم محكمة القضاء الإدارى بشأن مصرية جزيرتى تيران وصنافير هى حجج قوية ووجيهة ولا يجب أن تتغاضى عنها الحكومة أو مجلس النواب فى المستقبل، فلن يقتنع الرأى العام بعكس ذلك إلا إذا كانت لدى الحكومة حجج وأسانيد تضارع فى مصداقيتها ما كشف عنه حكم محكمة القضاء الإدارى، وهو ما لم تنجح الحكومة حتى الآن فى إثباته.

***

لقد كان تحليل محكمة القضاء الإدارى مصيبا فى اعتباره نظرية أعمال السيادة التى تحججت بها هيئة قضايا الدولة لرفض اختصاص القضاء بالنظر فى قضية ترسيم الحدود نظرية مرنة تتسع وتضيق بحسب نظام الحكم، فهى بالغة الاتساع فى النظم الديكتاتورية، وهى بالغة الضيق فى النظم الديمقراطية. والواقع أن التعبير الذى استخدمته محكمة القضاء الإدارى هو تعبير مهذب للغاية، فهذه النظرية، التى لم يستقر القضاء المصرى على تعريف محدد لها، ليست فقط مجرد نظرية مرنة، ولكنها نظرية عفا عليها الزمن، ليس فى العالم فحسب، ولكن حتى فى مصر أيضا، وخصوصا فيما يتعلق بالمعاهدات الدولية.

هى نظرية عفا عليها الزمن لأنها ترتبط بمفهوم لسيادة الدولة ربما يعود إلى القرنين السادس والسابع عشر، ولكن لا محل له فى القرن الحادى والعشرين، كما أنه يقصر السيادة على ما تقوم به السلطة التنفيذية، وهى واحدة فقط من بين سلطات الدولة، وليست الأجدر بالتعبير عن صاحب السيادة الحقيقى.

كان فقهاء القانون الدولى، يعتبرون أن سيادة الدولة مطلقة سواء فى علاقاتها الخارجية أو فى سياساتها الداخلية، ولكن هذا المفهوم الذى طرحه كل من «جان بودان» الفرنسىو «جروشيوس» الهولندى لم يعد صالحا منذ القرن العشرين، وخصوصا منذ نصفه الثانى. الدولة فى علاقاتها الخارجية ملزمة باتباع قواعد عديدة فى تعاملاتها الدبلوماسية والعسكرية والتجارية. هناك قواعد لإقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى وللاتجار فى الأسلحة وللانخراط فى تخصيب اليورانيوم وللتبادل التجارى، وسلطات الدولة معرضة للمساءلة إذا ما انتهكت أيا من هذه القواعد. طبعا ممارسة السيادة فى العلاقات الخارجية، ترتبط بمدى قوة الدولة، ومن ثم تتجاوز الدول الكبرى عن بعض هذه القواعد، بحسب مصلحتها القومية، لأن المجتمع الدولى لا توجد فيه فى كل الأحوال سلطة تفرض على الدول احترام هذه القواعد، ولكن فضلا عن القبول العام لهذه القواعد بين الدول هناك مؤسسات دولية تستطيع فرض العقاب فى حالات معينة، مثل مجلس الأمن فى الأمم المتحدة، ومثل محاكم حقوق الإنسان وجرائم الحرب والمحكمة الجنائية الدولية ومثل هيئة الاستناف بمنظمة التجارة العالمية، وغيرها كثير على الصعيدين العالمى والإقليمى. كما أن سلطة الدولة مقيدة على الصعيد الداخلى بدستورها وقوانينها. ومع كثرة سقوط النظم غير الديمقراطية منذ سبعينيات القرن الماضى، تقلص إلى حد كبير عدد الدول التى لا تلتزم صراحة بحكم القانون فى تعاملها مع مواطنيها ومن يقيمون غيرهم على إقليمها.

وفضلا على ذلك فحتى فى العصر الذهبى لنظرية سيادة الدولة، لم يقصرها أى من المفكرين على السلطة التنفيذية. السيادة هى ادعاء لكل سلطات الدولة مجتمعة لا تنفرد به واحدة منها، وعندما تدعى إحداها، مثل السلطة التنفيذية، أنها وحدها التى تملك السيادة، فإن ذلك يعتبر اغتصابا لمكنة مشتركة بين كل هذه السلطات جميعا، بل إنها كلها تنوب عن صاحب السيادة الأصيل، وهو الشعب، فى ممارسة السيادة، لأنه من الناحية العملية يصعب عليه أن يمارسها مباشرة، وإن كانت تعود إليه فى أوقات الانتخابات والاستفتاءات.

ولذلك فارتكان هيئة قضايا الدولة لفكرة أعمال السيادة، لكى تخلع عن القضاء الإدارى اختصاصه بالنظر فى صحة أو بطلان ما تقوم به السلطة التنفيذية، هو رجوع إلى حجة عفا عليها الزمن، بل ولا يتفق مع التطور الدستورى لمصر، الذى وإن لم يكن مكتملا، إلا أنه واضح وصريح فى ضرورة تقيد سلطات الدولة، وخصوصا التنفيذية منها، بقواعد محددة فى ممارستها لاختصاصاتها. بل يمكن القول أن أحد المطلبين الأساسيين للحركة الوطنية المصرية منذ قيامها فى سبعينيات القرن التاسع عشر هو الحد من السلطة المطلقة للحاكم، إلى جانب مقاومة التدخل الأجنبى فى شئون البلاد. فضلا عن أن سلطة الدولة فى موضوع إبرام المعاهدات هى مقيدة بحكم الدساتير المتتالية فى مصر، وآخرها دستور 2014 الذى يلزم فى المادة 151 السلطة التنفيذية بالحصول على موافقة السلطة التشريعية فى حالة معاهدات الصلح والتحالف، ويدعوها إلى العودة إلى صاحب السيادة الأصيل وهو الشعب إذا كان من شأن توقيعها لمعاهدة مساس بإقليم الدولة والذى يقسم رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء على وحدته وسلامة أراضيه.

***

طبعا قفز أنصار الحكومة من الإعلاميين للقول بأن القضاء الإدارى قد تعدى على السلطة التشريعية، لأنها فى رأيهم هى وحدها المخولة بحكم الدستور أن تنظر فى الموافقة أو الاعتراض على ما تبرمه الحكومة من معاهدات. ربما كان هذا الادعاء صحيحا لو كانت الحكومة قد اتخذت أى خطوة لعرض اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية على مجلس النواب. ولكن لا يبدو أن الحكومة قد اتخذت أى خطوة على هذا الطريق منذ التوقيع على الاتفاقية فى أبريل 2016 وحتى صدور حكم محكمة القضاء الإدارى فى 21 يونيو. كانت هناك تصريحات من جانب وزير الشئون القانونية ومجلس النواب، بأن الحكومة ستفعل ذلك، ولكن لم يصل شىء إلى مجلس النواب حتى كتابة هذه السطور. بل كانت هناك تصريحات توحى بأن النية ليست فى إحالة الاتفاقية إلى مجلس النواب بدعوى أن الجزيرتين سعودتيان، ومن ثم فهما ليسا ضمن الحدود المصرية، وبالتالى لا ينطبق عليهما الالتزام بالعرض على مجلس النواب وطرح المسألة برمتها على الشعب فى استفتاء وفقا للمادة 151 من الدستور.

لن يكون ادعاء هيئة قضايا الدولة بعدم اختصاص مجلس الدولة على أى من مستوى محاكمه بالنظر فى اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة السعودية فى أبريل 2016 مقنعا لأحد، فالتوقيع على هذه الاتفاقية هو عمل إدارى، يخضع للمجلس المنوط به فحص المنازعات بين الحكومة والمواطنين، وهناك قسم غير ضئيل من المصريين رجحت مؤسسة بصيرة أن يكون غالبيتهم لا يوافقون على هذا الترسيم وتنازل الحكومة المصرية بمقتضاه عن هاتين الجزيرتين، كما لن يكون هذا الادعاء كافيا لإقناع المصريين بعدم مصرية الجزيرتين، لأن حكم محكمة القضاء الإدارى ساق من الأدلة على مصرية الجزيرتين، ما يجعل من الصعب تصديق أن السيادة السعودية قد مورست عليهما فى أى وقت من الأوقات. الأدلة التى ساقها الحكم لا تقتصر على التاريخ القديم، ولا حتى على اتفاقية مع الدولة العثمانية فى سنة 1906، ولكنها تشمل وثائق الحكومة المصرية ذاتها بعد قيام الدولة السعودية فى سنوات 1937 و1945 و1950، وكلها تؤكد أنه فى عرف الدولة المصرية بوزاراتها المتعددة من مالية ودفاع وتعليم وغيرها كانت الجزيرتان جزءا من إقليم مصر دونما أى شك. فهل تناقض هيئة قضايا الدولة فى سنة 2016 ما استقرت عليه سلطات الدولة المصرية عبر تاريخها القديم والحديث والمعاصر؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved