ما بين البحث العلمي والصحافة العلمية

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 26 يونيو 2021 - 6:55 م بتوقيت القاهرة

لنتخيل معاً هذا السيناريو: بعض العلماء نشروا بحثاً في مجلة علمية مرموقة يثبت بالتجربة أن نوع معين من الطعام يساعد على زيادة التركيز مثلاً، ثم أتى بعض الصحفيين المتخصصين في الصحافة العلمية وأخذوا هذه المعلومة وكتبوا عنها في الجرائد والمجلات الموجهة للقارئ العادي. هل هناك خطأ في ذلك؟ المعلومة تأتي من علماء ومنشورة في مجلة علمية مرموقة إذا فهي معلومة مؤكدة وحيث أنها مؤكدة فمن حق الناس أن يعلموا بها حتى يستفيدوا.

هناك عدة مشاكل في هذا السيناريو لأن الموضوع ليس بتلك السهولة.

لننظر إلى هذا الموضوع من وجهة نظر القارئ والعالِم والصحفي العلمي.

 

من وجهة نظر القارئ العادي فالمعلومة صحيحة تماماً وقد يبدأ الكثير من القراء في تنفيذها، بعض القراء قد يكون حساساَ لنوع الطعام المذكور في المقال ويمرض والبعض الآخر قد لا يلاحظ أي تحسن في تركيزه إلخ وينتهي الأمر إما باتهام الصحفي بالكذب أو بفقدان الثقة في العلم.

 

الصحفي يريد أن يفيد القراء ويريد أيضاً أن يكثر من عدد القراء فيعمد إلى كتابة الموضوع بطريقة شيقة وهذا التشويق قد يقود إلى عدم الدقة في إيصال المعلومة. وقد حدث ذلك عند بداية ظهور أبحاث الذكاء الاصطناعي في أواخر خمسينات وستينات القرن العشرين، بدأت الصحافة تكتب عن تلك الأبحاث وتبالغ في قدرات الذكاء الاصطناعي والنتائج المأمولة منه وكان نتيجة ذلك أن بدأت الحكومات والشركات تمول هذه الأبحاث بغزارة وهي "مخدوعة" بتلك المبالغات في الصحافة، بعد عدة سنوات اكتشفت الحكومات والشركات أن الوعود أكبر بكثير من الحقيقة وتوقفت التمويلات وكانت السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن العشرين سنوات جدب من حيث التمويل لأبحاث الذكاء الاصطناعي نتيجة لتلك المبالغات الصحفية.

 

ما يريده العالم الباحث مختلف تماماً عن الصحفي، العالم عندما ينشر ورقة بحثية فإنما يخاطب العلماء أمثاله أي يخاطب الخاصة، وعندما يخاطب باحث ما باحثين آخرين فذلك لعدة أسباب: ليقول لهم هذه فكرة اكتشفتها وها هي تجربتي وأريد أن أعرف رأيكم، أو يقول لهم هذه فكرة أو اكتشاف قد تكون مهمة لكني لا أدري هل أنا مخطئ أو مصيب وأريد رأيكم، أو ليقول لهم هذه نتائج تجاربي وأريد منكم القيام بتجارب أخرى على عينات مختلفة إلخ.

من النادر جداً أن يُنشر بحث يكون هو فصل الخطاب ونقطة النهاية في سؤال بحثي معين، الأبحاث تتفاعل مع بعضها البعض لتقترب من الحقيقة لكن لا نستطيع في العلم أن نتكلم بيقين تام عن أي اكتشاف لأن تجربة واحدة في المستقبل قد تقلب هذا اليقين رأساً على عقب.

إذا كنت تظن أني أبالغ فأنصح بقراءة بحث نشر في أبريل الماضي (2021) بعنوان أترجمه كالآتي "الاستنتاجات العلمية لا يجب أن تكون دقيقة أو مبررة أو أن كتابها مؤمنون بها" وهو مقال في فلسفة العلوم لكن النقطة المهمة فيه أن الباحث عندما يخاطب باحث آخر يختلف تماماً عندما يخاطب العوام، وهنا نحب أن نلفت النظر إلى نقطة مهمة.

العالم الذي يلجأ إلى الصحافة في كل بحث يكتبه ليس بعالم حقيقي لكنه موظف علاقات عامة يبحث عن الشهرة أو التمويل إلخ وقد تكلمنا في هذه النقطة في عدة مقالات سابقة.

 

مما سبق نرى أن هناك تعارضا بين أهداف العالم وأهداف الصحفي، القارئ العادي هو ضحية هذا التعارض، فكيف نعالج هذه المشكلة؟ هناك عدة خطوات على طريق الحل.

 

الصحفي لا يجب أن يقرأ البحث ثم يكتب موضوعه، أولاً لأنه قد لا يكون من أهل التخصص وبالتالي قد لا يلم بدقائق هذا البحث، لاحظ أن الصحفي العلمي يكتب في مجالات علمية عديدة ومن المستحيل أن بكون متخصصاً في كل التخصصات، أيضاً قد لا يعلم أن هناك أبحاثاً أخرى تعضد أو تعارض هذا البحث، لذلك قبل الشروع في كتابة مقاله على الصحفي أن يتواصل مع مؤلفي البحث ويسألهم عن دقائق البحث ثم بعد كتابة المقال يعرضه على كتاب المقال إذا كان هذا ممكناً.

المقال الموجه للعامة يجب أن يشتمل على المعلومة وعلى التحذيرات، أو على المعلومات وبيان أن البحث مازال في مراحله الأولية إلخ.

 

الباحث يجب أن يحاول شرح فكرته للصحفي (إن لم يكن هو نفسه كاتب المقال الموجه للعامة) بأوضح الوسائل الممكنة مع بيان احتمالات الخطأ.

 

بالنسبة للقارئ فيجب أن يتحلى بالتفكير النقدي الذي تحدثنا عنه في عدة مقالات سابقة، عزيزي القارئ لا تصدق أي شيء بسهولة قبل أن تعرضه على عقلك فالعلم متغير ودائماً يجري وراء الحقيقية لكنه لا يستطيع أن يجزم أنه وصل إليها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved