فى يونيو: التحالف الأطلسى يُرتِّب أوراقه

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 26 يونيو 2021 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

فى خلال أسبوعين اثنين فيما بين الحادى عشر والخامس والعشرين من شهر يونيو الجارى انعقدت عدة مؤتمرات على مستوى القمة تباين حضورها فيما بين الاثنتين والسبعة والعشرين دولة هى على التوالى قمة الدول الصناعية السبع فى كورنوول بالمملكة المتحدة، وقمة حلف شمال الأطلسى ببروكسل ببلجيكا، والقمة الأمريكية الروسية بجنيف بسويسرا، وقمة الاتحاد الأوروبى ببروكسل ببلجيكا مرة أخرى. موضوعات كل من هذه القمم مختلفة من حيث المبدأ، ومع ذلك فإنه يمكن النظر إليها كلها على أنها كانت تصب فى محاولة لإعادة ترتيب أوراق التحالف الأطلسى. هذا التحالف يحيل بالطبع إلى الدول الأعضاء فى حلف شمال الأطلسى، وإلى موضوع هذا الحلف العسكرى، ولكن المفهوم يتعداه ليشمل دولا ليست أعضاء فى الحلف العسكرى، مثل فنلندا والسويد وإيرلندا والنمسا وقبرص ومالطا، ولكنها تتفق مع أعضاء هذا الحلف فى مبادئ النظم السياسية وقيمها، فضلا عن الترابط بين اقتصاداتها.
بخلاف تحليلات الخبراء لهذه القمم الأربع، فإن سبيلنا الأساسى إلى اعتبار أنها كانت بمثابة محاولة لإعادة ترتيب الأوراق الأطلسية هو تحليل البيانات الختامية الصادرة عنها. البيان الصادر عن القمة بين الرئيسين الأمريكى والروسى كان موجزا للغاية سنرجع إليه لدى نهاية المقال. سنتناول بشكل خاص فى المقال بعض ما جاء فى بيانى قمة حلف شمال الأطلسى وقمة الدول الصناعية السبع، وسنستعين أيضا بشىء مما جاء فى بيان قمة الاتحاد الأوروبى.
•••
أول ما يلفت النظر فى بيانى الحلف والدول السبع هو استهلالهما بالتشديد على قيم الحرية والديمقراطية والتمسك بحقوق الإنسان، وهو تشديد يتكرر ذكره، وهى تارةً «قيمنا» وتارة أخرى «القيم المشتركة بيننا». المتمسكون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان فى كل مكان لا شك يرحبون بهذه العبارات، سواء عملت بها فعلا الدول التى أصدرتها أم لم تعمل، لأن ثمة دلائل على أنها لم تعمل دائما. الغرض من تكرار هذه العبارات واضح وهو التأكيد على السمو الأخلاقى للدول التى أصدرت البيانين. حقيقة الأمر هى أنه لا يوجد ما يبرر الزعم بالسمو الأخلاقى للدول الأعضاء فى التحالف الأطلسى على غيرها، فمن بين هذه الدول من راكم مثلا الأمصال الواقية من فيروس كورونا واشترى منها كميات أكبر كثيرا من احتياجاتها فحرم منها دولا متوسطة الدخل وفقيرة، ومنها دول أغلقت حدودها أمام اللاجئين/ات الباحثين عن ملاذ وحماية لديها فى انتهاك للقانون الدولى أو فى تحايل عليه، ومنها دول يمارس فيها التمييز بين مواطنيها، وفيها دول سكتت بل وتعاطفت مع القصف الإسرائيلى الوحشى ضد الشعب الفلسطينى فى غزة منذ أسابيع قليلة، والأمثلة غير هذه عديدة. ليست هذه مطلقا دعوةً لتجاهل حقوق الإنسان باعتبار أن من صاغوها فى شكلها الحديث ينتهكونها. الأفكار، بعد أن تتبلور، تتخذ حياة مستقلة عمن صاغوها. لعل من أفضل ما قيل فى هذا الشأن عبارة نسبت إلى ثوار هايتى فى بداية القرن التاسع عشر عندما أعاد بونابرت العمل بنظام العبودية الذى كانوا قد ألغوه. نسب إلى واحد من الثوار أنه قال إننا نحن وليس حكام فرنسا الدعاة الحقيقيين لمبادئ الحرية والمساواة والإخاء التى رفعتها الثورة الفرنسية.
القارئ لبيانات القمم يلاحظ أنها تتناول كل شىء تحت الشمس، تقريبا! كل مشكلات العالم أو ما تراه الدول المجتمعة على أنها مشكلات تتناولها البيانات الثلاثة مجتمعة، كما أن المشترك بين هذه البيانات أكثر كثيرا من غير المشترك، وإن كان التشديد على موضوع هنا قد يختلف عن التشديد هناك. البيانات الثلاثة تتصدى للوباء العالمى، ولإعادة البناء فيما بعد الوباء، وللأمن السيبرانى، ولتغير المناخ، ولروسيا، والصين، وبيلاروسيا، وأوكرنيا، ، وهونج كونج، وأفغانستان، وإيران وخطة العمل المشتركة والشاملة بشأنها، والعراق، وسوريا وليبيا، وتيجراى فى إثيوبيا، وغيرها، وإن لفت النظر غياب أى ذكر للصراع الفلسطينى الإسرائيلى وللقضية الفلسطينية. اتساع الموضوعات، بعد الرسالة الضمنية بالسمو الأخلاقى، يوحى بأننا بصدد وضع قواعد للسلوك وتحديد معايير يقاس بها سلوك الفاعلين فى المجتمع الدولى. ليس ثمة ما يبرر ذلك. الدول السبع التى كانت اقتصاداتها هى الأكبر فى العالم فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى لم تصبح كلها كذلك. خرجت كندا وإيطاليا، وأصبحت الهند السابعة والصين الثانية، وصعب أن ينكر أحد أثر الصين الهائل على الاقتصاد العالمى. أما حلف شمال الأطلسى فلمجرد أنه حلف عسكرى، حتى ولو كان دفاعيا كما تقول بياناته وأدبياته، فهو يعنى أولا وأخيرا بأمن أعضائه ومصالحهم وهو يسعى إلى الاستمرار فى توسعه بضم دول جديدة إليه. والاتحاد الأوروبى هو الآخر يعنى بمصالح أعضائه ومواطنيهم ومواطناتهم فيميز مثلا فيما بين التجارة بين الدول الأعضاء فيه والتجارة مع الدول من غير أعضائه، كما أنه يميز فى مثل آخر بين مواطنى/ات الدول الأعضاء فيه ومواطنى/ات غير الأعضاء فى حرية التنقل والإقامة والالتحاق بسوق العمل. الدول السبع وحلف شمال الأطلسى والاتحاد الأوروبى يفتقدون الشرعية لفرض قواعد للسلوك. الأمم المتحدة وحدها لها هذه الشرعية، وبالطبع، يمكنهم من خلال آلياتها، ممارسة نفوذهم عليها.
•••
مسألة وضع قواعد للسلوك تصل بنا إلى لغة هذه البيانات ومواقف أصحابها من روسيا والصين. هذه المواقف تبدو أهم ما فى هذه البيانات. روسيا تتبدى شيطانا وهى مدعوة إلى الكف عن التدخل السيبرانى فى العمليات الانتخابية فى بلدان التحالف، وتطوير أسلحتها مدان وهى مدعوة إلى أن تتخلى عنه، كما أنها مدعوة أيضا، ضمن ما هى مدعوة إليه، إلى تغيير سلوكها فى أوكرانيا وفى أوسيتيا وأبخازيا. ولكن هذه الدعوات لا تمنع الحلف من الإعلان عن هدف ضم أوكرانيا وجورجيا إليه غير عابئ بوزن الجغرافيا والتاريخ وأثر ذلك على روسيا التى أعطاها الرئيس جورج بوش الأب وعدا فى بداية التسعينيات من القرن الماضى بألا يضم الحلف الدول التى كانت أعضاء فى حلف وارسو المنحل، ولكن ما لبث حلف شمال الأطلسى أن ضم هذه الدول الواحدة تلو الأخرى إليه فكان ذلك من أسباب فقدان الثقة بين روسيا وبينه. هذا التحليل ليس تنزيها لروسيا وإنما هو لبيان تعقد العلاقات بين الطرفين وتنويه بأنه ليس لأحد منهما تفوق أخلاقى حاسم على الآخر.
أما عن الصين، فالبيانات تدين اضطهاد سلطاتها لأقلية الأويغور فى إقليم شينجيانج، ولا غبار على إدانة أى اضطهاد، وهى مطالبة باحترام حريات سكان هونج كونج ونظامها السياسى والاقتصادى. والبيانات تدين تدعيم الصين لقوتها العسكرية، وهى تدعوها، وهذا هو الأهم، إلى الكف عن «التجسس الصناعى»، وعن دعم المؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة، وعن تقديم الدعم لصناعاتها. بعبارة أخرى التحالف يعتبر أن الصعود الاقتصادى الصينى المستمر يرجع إلى ممارسات غير نزيهة تمارسها من خلال سياساتها الاقتصادية متناسيا مثلا الدعم الذى تقدمه الحكومة الأمريكية لصناعة الطيران، ولصناعة السلاح وللزراعة الأمريكية. وفى مواجهة الصين يذهب التحالف خطوة أبعد فهو ينتهز آثار الوباء العالمى ليعلن فى بيان قمة الدول الصناعية السبع أنه وللحيلولة دون تأثر الاقتصاد فى مرات قادمة، نتيجة لانقطاع سلاسل الإنتاج العالمية، فإنه سيبحث عن سبل بديلة للتزود بالمعادن النادرة، وعن توطين صناعة أشباه الموصلات. النجاح التام فى ذلك فى علم الغيب ولكن الشىء الواضح هو العزم على عرقلة الصعود الصينى الذى اعتبره الرئيس الأمريكى التهديد الجيو سياسى الأكبر لهيمنة الولايات المتحدة لوضعها على قمة النظام الدولى. المفارقة هى أن الولايات المتحدة، الداعية الأولى للعولمة، مستعدة للتراجع فيها من أجل عرقلة صعود الصين! الصين، وليست روسيا، هى المقصودة الأولى باللغة الدفاعية الهجومية فى البيانات الثلاثة.
•••
البيان الصادر عن القمة الأمريكية الروسية مقتضب للغاية. هو يشير إلى أنه حتى فى أوقات التوتر يمكن إحراز التقدم فى تحقيق الأهداف المشتركة للطرفين. وفى البيان يهنئ الطرفان نفسيهما على تمديد اتفاقية تخفيض الأسلحة الاستراتيجية ويؤكدان من جديد أنه لا يمكن لأحد أن ينتصر فى حرب نووية وهى حرب لا يجب أن تنشأ أصلا. الطرفان يعلنان أيضا فى البيان أنهما سيبدآن قريبا حوارا ثنائيا للاستقرار الاستراتيجى يرسى الأساس لمحادثات مقبلة لضبط التسلح. اللغة الموجزة والمحايدة، إن لم تكن الودية، للبيان تتناقض مع العبارات الشديدة فى حق روسيا الواردة فى بيانى حلف شمال الأطلسى وقمة الدول الصناعية السبع. هذا يمنح مصداقية لما كان بعض المراقبين قد اعتبروه الغرض الأساسى غير المعلن للقمة الأمريكية الروسية، ألا وهو اجتذاب روسيا بعيدا عن الصين. يستدعى هذا إلى الذاكرة، ويا للسخرية، أن أحد أهداف زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للصين فى سنة 1972 كان اجتذابها بعيدا عن الاتحاد السوفييتى. من جديد، الصين هى المستهدفة الأولى من محاولة التحالف الأطلسى إعادة ترتيب أوراقه.
غير أن إعادة الترتيب هذه أسهل قولا من فعلا. فى يوم 25 يونيو تقدمت المستشارة الألمانية ومعها الرئيس الفرنسى باقتراح بدعوة الرئيس الروسى لحضور قمة قادمة للاتحاد للحوار معه بشأن القضايا التى تهم الجانبين متسائلين كيف يجتمع الرئيس الأمريكى بالرئيس الروسى ولا يجتمع الأوروبيون به. دول بحر البلطيق الثلاث وبولندا رفضت الاقتراح كما تحفظت عليه هولندا والسويد، وفى النهاية لم يعتمد الاقتراح. هذه مثلا عقبة أولى فى سبيل محاولة إعادة ترتيب الأوراق. وكما سبقت الإشارة، الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان وحرياته ليست مؤمنة فى كل بلدان التحالف، وهى أساس الشرعية التى يريد أن ينسبها لنفسه. أقصى اليمين الشعبوى وغير الديمقراطى يطل برأسه وهو له فرصه، للوصول إلى الرئاسة فى فرنسا مثلا. هذه عقبة ثانية يمكن أن تقوض كل أسس المحاولة.
ثم إن للصين كلمتها، وكذلك لدول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا كلماتها.
العالم يحتاج إلى إعادة جماعية لترتيب أوراقه.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved