الجماعة والدولة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الخميس 26 يوليه 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

جيد أن يصبح لدينا فى مصر رئيس للوزراء بعد طول انتظار. الأجود أن نفهم مسوغات اختيار الرجل ليتبوأ المنصب فى هذه المرحلة، خصوصا أنه قدم إلينا حتى الآن باعتباره خبيرا فى الرى. لا أريد أن أقلل من شأن الرجل، لكنى أتصور أن خبرته فى الرى لم تكن هى التى رشحته للمنصب، ولابد أن تكون له مناقب أخرى زكـَّته ومن حق الرأى العام أن يحاط بها علما، لسبب جوهرى هو أن معايير اختيار رئيس وزراء مصر الثورة لابد أن تكون مختلفة عنها فى مصر مبارك. فحضور المجتمع فى مصر الثورة يرتب حقوقا مختلفة عن حال تغييبه فى ظل النظام السابق. إذ السياسة فى مصر الراهنة شأن مجتمعى، الكل مستغرق فيه ومشدود إليه. فى حين أنها فى ظل النظام السابق كانت شأنا سلطانيا لا يتجاوز حدود أسوار السلطان وأسرته وكهنته. لذلك تمنيت ألا تحاط عملية اختيار رئيس الوزراء بما شهدناه من غموض وتكتم، وإذا كان ذلك الأسلوب مفهوما ومبررا فى إطار الجماعة، لأسباب يطول شرحها، فإن استمراره فى إدارة الدولة ليس مرحبا به، خصوصا بعدما خرج الوطن من حظيرة السلطان إلى فضاء الديمقراطية.

 

أستطيع أن أتصور صعوبة العملية. فالنظام السابق حين أمات السياسة وعمد إلى تدمير الخلايا الحية فى المجتمع على مدى ثلاثين عاما على الأقل، فإنه حول الساحة السياسية إلى صحراء جرداء، أقيمت عليها بعض الكيانات الوهمية التى شغلتها أجيال من المهرجين والمنتفعين. وهو مناخ لم يسمح بقيام قوى سياسية حقيقية، ولا بتكوين رموز سياسية تحظى بالإجماع الوطنى. وكانت النتيجة أن الناس لم يروا خلال الثلاثين سنة سوى «نجم» واحد ملأ الفضاء وأمسك بكل الخيوط فى يده. سواء ما تعلق منها بمصير البلد وتعهداته، أو ما تعلق بمصير حارس المرمى الذى هرب من ناديه لكى ينضم إلى ناد آخر فى الخارج.

 

الجدب السياسى لم يكن المشكلة الوحيدة. لأن الضغوط السياسية ــ الداخلية على الأقل ــ عنصر آخر ضاعف من صعوبة الاختيار. ذلك أن أحدا لا يستطيع أن يلغى دور المجلس العسكرى فى العملية. ومن الطبيعى أن يكون للأجهزة الأمنية والرقابية رأى فى خلفيات كل مرشح. ثم لا ننسى دور الجماعات السياسية المترقب منها والمتصيد. أما دور الإعلام فى الضغط والتشويه والتحريض فحدث فيه ولا حرج. لا أتحدث عن الإعلام الخاص. لكننى أتحدث أيضا عن  الإعلام الرسمى، الذى ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أنه يقف لأول مرة ضد الرئيس. (إحدى الصحف القومية رفضت نشر مقالة قارن فيها المحرر بين الرئيس محمد مرسى وبين رئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا من زاوية أن كلا منهما خرج من السجن إلى الرئاسة).

 

فى ظل هذه الأجواء، كان على رئيس الجمهورية أن يعثر على رئيس للحكومة تتوافر فيه شروط عدة، أن يكون من غير الإخوان لأن المجتمع لا يحتمل رئيسا للدولة ورئيسا للحكومة وأغلبية برلمانية إخوانية فى ذات الوقت. وألا يكون حزبيا ليس فقط بسبب التنازع الراهن بين الأحزاب. ولكن أيضا لأن الأحزاب الأخرى من الضعف بحيث يتعذر عليها أن تفوز بثقة البرلمان. فى ذات الوقت يرجى فيه أن يكون من خارج نادى «العواجيز»، ومنتسبا إلى الثورة، بمعنى أن يكون متصلا بالسياسة وليس منخرطا فيها (منشغلا وليس مشتغلا) ــ وذلك كله بخلاف الكفاءة الشخصية والقدرة الإدارية والشخصية القيادية.

 

لأننا مازلنا فى «تمهيدية الديمقراطية» كما يقال، لست أشك فى أنه تعذر توافر شروط الحد الأقصى فى الشخصية المرشحة لرئاسة الحكومة، وأغلب الظن أن الأسابيع الثلاثة الأخيرة شهدت موازنة مستمرة بين الشروط التى يمكن التغاضى عنها وشروط الحد الأدنى التى لا يمكن النزول تحتها. وبسبب شح المعلومات فلست واثقا مما يهمس به البعض من أن ما عزز موقف رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل أنه كان مرشح الحد الأدنى، بمعنى أن قوته كانت فى ضعفه، لكن الصورة سوف تتضح أكثر من خلال أداء الرجل واختياره للفريق الوزارى المعاون له، الذى لا أشك فى أنه سيواجه صعوبات فى تشكيله بسبب التنازع حول حصص القوى السياسية المختلفة. وأرجو ألا يكرر الإخوان والسلفيون خطأهم الذى ارتكبوه فى تأسيسية الدستور، بحيث يظل المعيار فى تشكيل الحكومة هو الكفاءة والخبرة وليس الهوية والانتماء السياسى. علما بأن الحكومة الجديدة ستواجه تحديات أخرى من داخل الجهاز البيروقراطى ذاته، لأن بعضه على الأقل يقف فى معسكر الضد الذى لا يتمنى النجاح للتجربة ولا يتمنى الاستمرار للثورة ذاتها. لذلك فإن الجماعة الوطنية المصرية مطالبة بأن تساند الحكومة الجديدة، ليس فقط لكى تنجح فى مهمتها ولكن أيضا لكى تتقدم الثورة لتحقيق أهدافها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved