سلطنة.. ثلاثةٌ في حب العبقري محمد فوزي

ياسر علوي
ياسر علوي

آخر تحديث: الأحد 26 يوليه 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

 طير بينا يا قلبي – تملّي في قلبي – ساكن في حي السيدة

-1-

أولاً: موهبةٌ فذةٌ ظُلِمَت مرتين

موعدُنا اليوم مع أحدِ ألمعِ فناني القرن العشرين في مصر المحروسة. موهبةٌ مكتملةٌ حقاً. ففي عمرٍ فنيٍ أقل من عقدين (من بدايةِ ظهورِه في منتصفِ الأربعينات، وحتى وفاتِه المبكرةِ في منتصفِ الستينات متأثرا بسرطانِ العظام الذي داهمه منذ نهاية الخمسينات)، أمضى محمد فوزي 15 عاما (حتى آخر أفلامه، ليلى بنت الشاطئ، عام 1959 من إخراج حسين فوزي) يُلحن ويُغني ويُمثل بل وأحياناً يشترك في كتابة سيناريوهات أفلامه التي بلغت 30 فيلماً. فمعدل إنتاج محمد فوزي كان فيلمان في السنة، وبهذا لا يفوقُه في حجمِ إسهامِه في تاريخ السينما الغنائية المصرية إلا فريد الأطرش (مع ملاحظة أفلام فريد الأطرش عرضت على امتداد 33 عاماً، أي أكثر من ضعف العمرِ الفني لمحمد فوزي).

هذا مع ملاحظة، أنه أجاد وتميز في كل هذه الفنون، بل أظهر قدرة حركية فريدة بين نجوم السينما الغنائية المصرية من الرجال (لم يمتلك أيٌ منهم قدراتٍ حركيةً، ربما باستثناء الملحنُ العظيم منير مراد، الذي لا يمكن أن نَعُدَّه -كممثل ومؤدٍ لا كملحن– من علاماتِ السينما الغنائية، نظراً لمحدوديةِ عددِ الأفلامِ التي قام ببطولتِها). مَكَّنَته هذه القدرةُ الحركيةُ مثلاً من أداءِ مشاهد راقصة خلت من نظائرِها أفلامُ السينما الغنائية التي قامَ ببطولتها ممثلون رجال. فأين الضعفُ الحركيُ لسادةِ السينما الغنائية العظام فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وعبد العزيز محمود وكارم محمود، من رشاقةِ أداء محمد فوزي مثلا لرقصةِ "التشا تشا تشا" اللاتينية الشهيرةِ التي أداها ببراعةٍ أمام سامية جمال في الفيلم البديع "كل دقة في قلبي" (إخراج أحمد ضياء الدين، وإنتاج عام 1959).

-2-

   لكن هذه الموهبةَ المكتملةَ لم تنل برأيي حقَّها حتى اليوم. بل تعرضت للظلمِ مرتين. الظلمُ الأولُ لفوزي جاء من متزمتين نخبويين، أخذوا عليه أنه رغم موهبتِه الكبيرة لم يُنوِع في القوالبِ الغنائيةِ العربيةِ (فجاء جُلُ إنتاجِه في قالبِ الطقطوقة، الذي هيمَن على السينما الغنائية منذ نشأتِها) ولم يُنوِع غناءه وألحانَه بين الفصحى والعامية، كما أنه اقتصرَ على الأغاني القصيرةِ، ولم يُدل بدلوِه في المطولاتِ التي هيمنت على الغناءِ العربي منذ المحطةِ الفذة في تاريخ هذا الغناءِ العربي، رائعة "رق الحبيب" لأحمد رامي ومحمد القصبجي وأم كلثوم عام 1941، التي دشنت هيمنةُ المطولاتِ كمعيارٍ لبنيةِ وثراءِ الألحان، وأهميةِ الملحنين.

والحقيقةُ أنَّ فوزي كان أحدَ أضلاعِ مثلثِ العباقرةِ (مع العظيمين محمود الشريف وأحمد صدقي) الذين لم تَستهوِهِم المطولاتُ، وظُلموا كثيراً بفعلِ إخلاصِهم للونِ الطقطوقةِ القصيرةِ، التي رأوا أن باستطاعتِهم أن يُكثفوا من خلالِها كلَ ما يريدون قولَه.

وهناك قصةٌ مشهورةٌ يعرفُها كلُ محبي محمد فوزي عن تنازلِه عام 1961 عن تلحين أغنيةِ "أنساك" لأم كلثوم، من كلمات مأمون الشناوي، لمريدِه وتلميذِه "الشاب" وقتها بليغ حمدي، الذي قرأ الكلماتِ ولحّنَ مطلعَها وأسمعَه لفوزي فأعجبَه. وكما هو معتاد في مثل هذا النوعِ من القصص، فإنها تُروى برواياتٍ عديدةٍ، تختلفُ في تفاصيلِها وملابساتِ الصدفةِ التي جعلت بليغ حمدي يَطّلِع على الكلماتِ والوقتِ الذي احتاجَه لتلحينِها والطريقةِ التي قام بها محمد فوزي بتقديمِه لأم كلثوم وترشيحِه لاستكمالِ اللحن...الخ، لكن ما يُهمنا، هو أنّ كلَّ تلك الرواياتِ، وإن عكست نبلاً وإيثاراً لا لبسَ فيهما من محمد فوزي لتلميذه، فإنها تُشيرُ أيضاً برأيي لمزاجِه اللحني الذي لم يكن يتلاءم كثيرا مع المطولاتِ (فلم يُعرف مثلاً عن فوزي أنه جرب أن يُلحن مطولةً أخرى سواء لأم كلثوم أو لغيرِها، لا قبلَ أنساك، ولا في السنواتِ الأربعِ التي عاشها بعدَها واقتصرَ نشاطَه خلالَها على التلحينِ المتقطعِ بعد أن اضطرته ظروفُه الصحيةُ للتوقفِ عن الغناءِ والتمثيلِ والرقصِ).

-3-

لكن فوزي لم يتعرض لهذا النوعِ من الظلمِ المتحذلقِ وحسب، وإنما تعرضَ لنوعٍ ثانٍ أكثر قسوة برأيي من الظلم، جاءه من كثيرٍ من مريديه ومحبي فنه. تمثل ظلمُ ذوي القربى هؤلاء، "الأشدُ مضاضةً على المرءِ من وقعِ الحسامِ المُهَنَّدِ"، على حد التعبير الشهير في معلقة طَرَفَة بن العبد البكري، في أنّه تحتَ شعارِ الاحتفاءِ بحقيقةِ كون فوزي من كبار المجددين في الموسيقى المصرية، تم اختصارُ المشروعِ الفنيِ الثريِ لمحمد فوزي في مجموعةٍ من الأغاني الخفيفة ذاتِ الإيقاعِ السريع (والإيقاعُ عند هؤلاء علامةُ الحداثةِ التي لا ريبَ فيها)، لا يزيدُ عددها عن 10 في أكثر تقدير من 400 لحناً وضعهم محمد فوزي. هذه الألحان، العشرة على أكثر تقدير، تُمثلُ كُلَ ما يتضمنه "ريبرتوارُ محمد فوزي" الذي يؤديه محبوه من المغنين "الحداثيين" منذ أكثر من 30 عاما (وليجرب القارئُ مثلاً أن يدون أسماءَ أغاني محمد فوزي التي يذكرُ أنه سمعَها في السنواتِ الخمسِ الأخيرةِ مثلاً في برامجِ اختيارِ المواهبِ الغنائيةِ التي تملأُ الفضائياتُ، أو حتى في مهرجاناتِ الموسيقى العربيةِ!!).

-3-

ثانيا: معالمُ المشروعِ الموسيقيِ الثريِ لمحمد فوزي

فوزي من أعظمِ مجددي الموسيقى العربية، ولو كره المتحذلقون. ثم إن مشروعَه الموسيقي أكثرُ ثراءً بما لا يُقاس مما يختزله منتحلو الحداثةِ السطحيةِ.

وفي رأيي أن فوزي الملحن هو من حيثُ المؤثراتِ التي شكَّلَت أسلوبَه في التلحين يمثلُ نقطةَ التقاطعٍ الفني بين العملاقين محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب. ومن حيثُ مضمونِ مشروعِه الفني، فإن فوزي بالإضافةِ لريادتِه في مجالِ أغاني الأطفال (مثال: ذهب الليل، وماما زمانها جاية)، وتجاربِه الجميلةِ في الأغاني الوطنية (مثال: بلدي أحببتك يا بلدي، يا طير يا طاير فوت على بلدي، والنشيد الوطني الجزائري "قسما بالنازلات")، والدينيةِ (مثال: بُشراك يا صايم، والمسحراتي)، فقد كانت الأغنيةُ السينمائيةُ هي مناطُ اهتمامِه الأساسي، ومن خلالِها قام بإنتاجِ روائعِه في ثلاثةِ خطوطٍ أو ألوانٍ لحنيةٍ أساسية.

الخطُ الأول والأشهرُ يتمثل في الأغاني الخفيفة الراقصة ذات المنحى التجريبي (بمعايير عصرِها، وأحيانا حتى بمعاييرِ اليوم). وفيه بدا أثرُ التوجهُ التجريبيُ لدى محمد القصبجي على اختياراتِ فوزي. ونُلاحظ هنا أن لألحانِ فوزي الخفيفةِ خصوصيةً تتمثلُ في احتفائِها بالتجريبِ الإيقاعي أكثرَ من تنويعِ المقامات. نجدُ ذلك في تجربتِه الساحرةِ مع إيقاع التانجو مثلاً (أغنية "راح توحشيني")، وإيقاعِ الفالس (أغنية عيدِ الميلاد الشهيرة "ده يوم ميلادك أحلى عيد"). كما نجدُه عند أهمِ ألحان محمد فوزي وأكثرِها اكتمالاً في هذا الخطِ برأيي، الأوبريت المذهل "الحب له ألوان" الذي غناه مع شادية وإسماعيل ياسين في ختام فيلمه الرائع "بنات حواء" (إخراج نيازي مصطفى، إنتاج عام 1954). ففي هذا الأوبريت وصل التجريب الإيقاعي لمداه حيث تنقل فوزي في لحن مدته 3 دقائق برشاقةٍ معجزةٍ بين إيقاعات الفوكس تروت والفالس والروك أند رول وإيقاع الوحدة (البلدي)، مع تلاعبٍ ساحرٍ بمقاماتِ العجم والراست والكرد وغيرها. وستكون لنا عودةٌ في مقالٍ قادم ربما أُخصصه حصرياً لهذا اللحن، الذي أعتقدُ أنه درةُ ما لحَّن محمد فوزي، وأصفُه أحياناً بأنه كان المسودةَ أو المخطوطةَ الأولى Blueprint التي اختصر فيها فوزي كلُ الحيلِ والتقنياتِ الموسيقيةِ التي استخدمَها في مسيرتِه كلِها.

على كلٍ، فما يُهمنا هنا هو أنّ الإيقاعَ، لا التنويعَ المقامي، كان مدخلَ فوزي المفضلَ للتجريبِ. كما كان لمحمد فوزي مغامراتٌ طريفةٌ في التجريب الموسيقي، مثل تلحينِ أغنيةٍ للأصواتِ بدون آلاتٍ موسيقية، في القالبِ المعروف غربيا بالـAcapella (أغنية "كلمني طمني")، والتجربة ذات الأهميةِ التأسيسيةِ في لونِ "الفرانكو أراب"، أغنية "يا مصطفى يا مصطفى" الرائعةِ التي لحنها للمطربِ المصري-اللبناني بوب عزام عام 1961 في مقامِ العجم.

الخطُ الثاني في المشروعِ الموسيقي لمحمد فوزي، يتمثلُ في الأغاني التطريبيةِ ذات المزاجِ الوهابي الواضح (نسبة لمحمد عبد الوهاب)، وفيها أنتج فوزي عدداً من روائِعه. وقد هيمن هذا الخطُ مثلاً على كلِ الألحانِ التي وضعَها لأحدِ أروعِ أفلامِه من الناحيةِ الموسيقيةِ، فيلم "ورد الغرام" (إخراج هنري بركات، وإنتاج 1951)، وأهمها برأيي لحنُه الفذ "لي عشم وياك يا جميل"، والدويتو الخالد "شحات الغرام" مع ليلى مراد.

أما الخط الثالث، فهو الغناء الشعبي. فمحمد فوزي هو ابنُ منشدٍ دينيٍ من منشدي مسجد السيد البدوي في مدينة طنطا في دلتا القاهرة، وخياراتُه المقاميةُ في الأغاني الشعبية تأثرت كثيراً بتقاليد الإنشادِ الديني وتجويدِ القرآن (على نحو ما سنشرح لاحقا). وفي هذا الخطِ من الغناء الشعبي أنتج فوزي بعضاً من أشهرِ وأجملِ أغانيه، (مثال: مال القمر، وأيوة الله، وحبيبي وعنيا، والسعد واعدني..الخ). بل إنني قمتُ بإحصاءٍ مبدئيٍ لأغاني فوزي وألحانه، لأكتشف أن أغلبيةَ ألحانِه تنتمي لهذا اللونِ الشعبي، وليسَ للونِ الخفيفِ الراقصِ الذي كثيراً ما تُختزلُ تجربتُه الفنيةُ فيه.

 على كلٍ، سنقومُ اليوم، كمدخلٍ أولي للعالمِ الموسيقي الثريِ لمحمد فوزي، بإلقاءِ نظرةٍ سريعةٍ على ثلاثِ أغنياتٍ، تُمثل الخطوطُ اللحنيةُ الثلاثةُ التي قامَ عليها المشروعُ الفني لمحمد فوزي، هي: طير بينا يا قلبي (الخط الأول)، وتملي في قلبي يا حبيبي (الخط الثاني)، ولحنه لمحمد عبد المطلب ساكن في حي السيدة (الخط الثالث).

-4-

الطيرانُ بجناحي البهجةِ والأمل: طير بينا يا قلبي  

اللحنُ الأولُ الذي نستمعُ إليه اليوم، يمكنُ اعتبارُه علامةَ البهجةِ المسجلةِ التي لا تُخطئها أذنُ سميعٍ لمحمد فوزي، ولا تستطيعُ في ظني أن تسمعَها دون أن ترتسمَ على وجهِك الابتسامةُ، الأغنية الجميلة "طير بينا يا قلبي"، كلمات حسين السيد، من فيلم "دايما معاك" (1954، إخراج هنري بركات) مقام الكرد.

مناسبةُ الأغنيةِ في الفيلم، هي اللحظةُ التي يُقررُ فيها الحبيبان "حمادة وتفيدة" (محمد فوزي وفاتن حمامة) الزواج، ويقومُ عبد الوارث عسر باصطحابِهما في نزهةٍ بحنطورِه ابتهاجاً بالقرار. وبالتالي، المزاجُ العام للأغنيةِ هو جرعةٌ خالصةٌ من الابتهاجِ والتفاؤلِ بعد ساعةٍ ونصفِ من أوجهِ الشقاءِ والمعاناةِ التي يتعرضُ لها الحبيبان.

تلمسُ ذلك في الكلماتِ الرشيقةِ واللطيفةِ لأحدِ أشهرِ مؤلفي الكلماتِ في الموسيقى المصرية، الشاعر الموهوب وخفيف الدم حسين السيد. وهي تعكسُ ببساطةٍ لا تحتاج لكثيرِ شرحٍ هذا التفاؤلَ بمستقبلٍ مشرقٍ غيرِ متوقعٍ (فالوردُ نفسُه كان يخشى أن يكون قدر المحبين تعيساً كما يشيع في عالمِ المحبين الفقراء، "حبايب الورد كلهم" حسب كلمات الأغنية)، وتُقارن بين الإشراقةِ التي لا تُصدق "مين كان يصدق والنبي"، والتي يثقُ المحبان بمنتهى التفاؤل أنها مستمرة "ومن النهاردة لميت سنة..إنت الحبيب والروح أنا".

هذا من حيث المضمون، أما من حيث الشكل، فهي تنتمي كما الغالبيةُ الساحقةُ لأغاني فوزي إلى قالبِ الطقطوقة، وتبدأُ بمذهبٍ مكونٍ من بيتين يحثُ فيهما العاشقُ قلبه على أنَ يطير غير ملوٍ على شيء (فلا تسل أيها القلب عن الطريق) ما دام الحبيبان معا. وصوتياً، تتطابق القوافي في صدر البيتين وعجزهما (ولا تقوليش/متسألنيش، ومنين/على فين) في جرس موسيقي صاخب هو إحدى العلاماتِ المميزةِ لكلمات حسين السيد.

يلي ذلك كوبليهان كل منهما مصاغٌ في صيغةِ رباعيتين. الرباعيةُ الأولى تتطابق قوافي شطرِها الأول مع الثالث، والثاني مع الرابع. والرباعيةُ الثانية تتطابق قوافي شطرها الأول مع الثاني، والثالث مع الرابع. هكذا، في الكوبليه الأول، رباعية أولى (شطرها الأول "الورد من يوم وحدتي" متطابق مع قافية الشطر الثالث "خاف من نصيبي وقسمتي"، ونفس التطابق بين الشطرين الثاني والرابع "كلهم/زيهم")، تليها رباعية أولى، تتطابق قافية شطرها الأول والثاني (سوا/الهوا)، والثالث والرابع (الهنا/أنا). وتتكررُ نفسُ البنيةِ في الكوبليه الثاني.

على أن في تركيبةِ الكلماتِ وجهَ طرافةٍ آخرَ، هو أن الشطرَ الأخيرَ في كلِ كوبليه يتكررُ بنصِه "إنت الحبيب والروح أنا". وهذا التكرارُ في رأيي مؤشر على احترافيةِ حسين السيد وامتلاكِه لناصيةِ قالبِ الطقطوقةِ الغنائيِ بشكلٍ كاملٍ. كيف؟

قالبُ الطقطوقةٍ، وهو القالبُ المسيطرُ على السينما الغنائية كما قُلنا، يقومُ على مذهبٍ، وعددٍ من الكوبليهات، بحيث يُغنَى المذهبُ في بدايةِ الطقطوقةِ، ثم يتكررُ غناؤه بين الكوبليهات.

ومن تقاليدِ هذا القالبِ أيضا، أن ينتهي كلُ كوبليه ببيتٍ يُسمى "التسليمة" وهو الذي يُفترض أن يُعيدنا مجدداً (=يسلمنا) في نهاية كل كوبليه (مهما تنوع فيه الملحن إن أرادَ إيقاعياً ومقامياً) إلى المقامِ الموسيقيِ الأساسي للمذهبِ، بحيثُ نعودُ لغناءِ المذهبِ بين الكوبليهات بسلاسةٍ.

ما فعلَه حسين السيد هنا، هو أنه استوعبَ هذا القالبَ تماماً، لدرجةِ أنه قررَ أن يُسَهِل مهمةَ الملحنِ، بأن يُكررَ نصَ الشطرِ الأخيرِ من كلِ كوبليه، ليُسهلَ تماماً العودةَ إلى المذهب (كلماتٍ ولحناً). شغلُ شاعرٍ غنائيٍ متمرسٍ ومحترفٍ فعلاً، أليس كذلك؟

-5-

لحنياً، هذا اللحنُ بتقديري هو النموذجُ الخالصُ على الخطِ الخفيفِ التجريبيِ في ألحانِ محمد فوزي، بكلِ خصائصِه التي تتكررُ في كلِ ألحانِ فوزي في هذا الخط. فأساسُ التجريبِ عند فوزي كما قُلنا هو الإيقاع. وهنا موعدُنا مع اختيارٍ ذكيٍ لإيقاعِ الفوكس تروت الرشيق (الذي يُفترض أن يُناظر إيقاعَ الحنطور، وهي فكرةً يُثبّتها فوزي من خلالِ صوتِ الإيقاعِ في مطلعِ الأغنيةِ ونهايتِها).

ويبدأ فوزي من إيقاعِ الكرد، ويُغني اللحنَ الرائعَ الرشيق للمذهب بالكاملِ من مقامِ الكرد (وهو مقامٌ شجيٌ يستخدم في الموسيقى العربية بل وفي تجويد القرآن كما سُنشيرُ لاحقاً، لقربِه من أحدِ مقاماتِها الخالصةِ وهو مقامُ البياتي الجميل، ولكنَه معروفٌ في الوقتِ نفسِه بكثرةِ استخدامِه في الغناءِ الغربي، لأنه لا يتضمنُ درجةَ ثلاثةِ أرباعِ التون، ولهذا كان الأقدمون يسمونه أحيانا "بياتي الفلامنكو"، نظراً لصلةِ القربى بينه وبين البياتي -يختلفان في نوتة موسيقية واحدة فقط- فضلا عن شيوعِ استخدامِه في أغاني الفلامنكو الأسبانية). وبطبيعةِ الحال يتكررُ غناءُ المذهبِ بين الكوبليهات، على ما جرى التقليدُ الفنيُ في تلحينِ قالبِ الطقطوقةِ، غيرَ أن فوزي يُجرب هنا أيضا، فنسمعُ في المذهبِ عندما يُعاد غناؤه بين الكوبليهات تجربةٌ ساحرةٌ في الهارموني وتعددِ الأصوات اللحنية، بين لحنِ الكوبليه الذي تعزفُه الآلاتُ، والآهاتُ التي يقولها فوزي والكورال في نفسِ الوقت. شيءٌ ساحرٌ ومبهجٌ لأقصى درجة، وكأن فوزي هنا يُحيي أحدَ رافدي فنَّه، العظيم محمد القصبجي (في استخدامِه التجديدي للإيقاع الغربي "الفوكس تروت" ولآهاتِ الكورال الهارومنية مع لحن شرقي، بطريقة التوليفِ التي ابتدعَها القصبجي، والتي تذكرنا مثلاً بتوليفةِ الآهاتِ الهارمونيةِ للكورال في لحنِ القصبجي العبقري على إيقاعِ الفالس لليلى مراد "قلبي دليلي").

وفي الكوبليهِ الأول، يبقى فوزي أساساً في مقامِ الكرد، مع "عُربة" (أي تنويعة قصيرة لا تستغرق 3 ثوان) تلمس مقام الحجاز ثم تعود للكرد في جملةِ "ليكون نصيبي زيهم"، ولمسة سريعة لمقام النهاوند "دلوقت هنروح له سوا" قبل العودة للكرد لنختتم الكوبيله بالمقام الذي بدأ منه، و"يسلمنا" إلى المذهب الذي يغنى كما قلنا من ذات المقام الجميل.

أما في الكوبليه الثاني فيُبدل فوزي الترتيب، يبدأ بمقامِ النهاوند (الذي أومأَ له باقتضابٍ في الكوبليه الأول كما ذكرنا)، ثم ينتقلُ في نهايةِ الكوبليه إلى مقامِ الكرد ليُسلمنا إلى المذهب.

كل هذا في لحن مدته 3 دقائق.. ولكن إياك أن تستهينَ بثلاثِ دقائقٍ بين يدي ساحرٍ قديرٍ كمحمد فوزي. فهو قادرٌ خلال هذه الدقائقِ على أن يُقدم لك مذهبٌ رشيقٌ (مع تجريبٍ في الهارموني والإيقاع) يليقُ بأحد سادةِ التجديدِ في الموسيقى العربية، ثم كوبليهات بها ما يكفي من التنويع المقامي والتطريب ليُذكرك بأنه في الوقت نفسه مطربٌ عتيدٌ راسخٌ في فنونِ الموسيقى العربية، ويجمعُ السحرَ الموسيقيَ من طرفيه (التجريب والتطريب).

-6-

قَطْرُ الشجن: تملّي في قلبي

 هذا أحدُ أجملِ الألحانِ التي صاغها فوزي في الخطِ "الوهابي/التطريبي". ففوزي ليس فقط مُجرباً يتوسلُ بالإيقاعاتِ الغربيةِ سبيلاً للتجريبِ في موسيقاه. بل هو أيضاً مطربٌ وملحنٌ راسخٌ في فنون الطربِ العربي. وبعضٌ من أجملِ ألحانِ فوزي كما أشرنا في بداية المقال، تنتمي لهذا الخطِ في مشروعِه الموسيقي. الكلماتُ لعبد الفتاح مصطفى، مقام الحجاز.

وعلى غير الصورةِ النمطيةِ الشائعةِ حالياً عن ألحان محمد فوزي، نحن هنا مع شجنٍ مُقطرٍ، وطربٍ شرقيٍ خالصٍ، واستعراضٍ لقدراتِ فوزي اللحنيةِ في التنقلِ المقامي (مُستلهماً هنا ِنصفَه الوهابي، لا نصفَه القصبجيّ) والغناءِ التطريبي.

بدايةً، الكلماتُ شجيةٌ ولا تخلو من مسحةِ حزنٍ، فكرتُها المركزيةُ أنها شكوى للمحبوبِ من المحبوبِ (أنا باشكي إليك منك)، بطريقةٍ تكادُ تومئُ تحيةً لسيدِ شعراءِ العربيةِ أبي الطيب المتنبي، (بقولها للمحبوب أن فيه الخصام وهو الخصم والحكم، على نحو ما أنشد المتنبي في قصيدته الشهيرة لسيف الدولة التي مطلعها "وا حرَّ قلباهُ ممَّن قلبُه شَبِمُ"). والشكوى هنا من البعدِ الدائمِ (تملّي= دائما)، وأشجانِه.  هذا كلُ ما تقولُه الأغنية، غزلٌ متبتلٌ يشرحُ لوعةَ الحبِ وأشجانِه برقةٍ بالغةٍ وكلماتٍ بسيطةٍ تمسُ شِغافَ القلبِ وتُفسِرُ نفسَها بنفسِها.

أما من حيث الشكل، فالأغنيةُ تتكونُ من مذهبٍ، و3 كوبليهات. وينقسمُ المذهبُ إلى بيتين، تتطابقُ قوافيهُما صدراً وعجزاً (يا حبيبي/ داري بي، و عنك/منك). ثم ينقسمُ كلُ كوبليه إلى 3 أبيات: تتطابقُ قوافي البيتينِ الأولينِ صدراً وعجزاً، ثم تتطابقُ قافيتا صدرِ وعجزِ البيت الثالثِ، ليُختتم الكوبليه ببيتٍ رابعٍ هو في الحقيقةِ البيت/الفكرة المركزية في الأغنية كلها (الشكوى للمحبوب الخصم/الحكم).

هكذا نجدُ في الكوبليهِ الأولِ مثلاً (قلبي/جنبي وجاري/داري في البيتين الأولين، ثم كفاية/دنيايا في البيت الثالث، قبل أن نختمَ بالبيتِ المركزي للقصيدةِ "أنا باشكي إليك منك يا حبيبي). ويتكررُ الأمرُ في الكوبليهين الثاني والثالث. وبطبيعةِ الحال، تعددُ القوافي وتنوعُها بهذا الشكل يتيحُ إمكاناتٍ للتنوعِ المقاميِ ويُعطي الكلماتِ جرساً موسيقياً يُسَهِل مهمةَ الملحنِ ويفتحُ مساحةَ الحركةِ أمامه. ولن يفوتَ القارئُ/السميعُ المدققُ أن القوافي هذه تخلو من الاستسهال، فجوهرُها طوال الأغنية هو اللعبُ بخيالِ شاعرٍ ثريٍ ومثقفٍ شعرياً بالجناسِ اللفظي في النطقِ المصري لكلماتٍ مختلفةِ الهجاء (مثال: كفاية/دنيايا في الكوبليه الأول، وكُلّي/قل لي في الكوبليه الثاني)، بطريقة تليقُ بأحدِ أرقِ كتابِ الأغاني وأكثرِهم موهبةً في منتصفِ القرنِ العشرين. الشاعر عبد الفتاح مصطفى.

-7-

فوزي الذي تَقَصَّب (نسبة للقصبجي) في أغنية طير بينا يا قلبي، يَتَوَهَّب في هذا اللحن الطويلِ بمعاييرِ محمد فوزي (مدتُه أكثرُ قليلاً من 8 دقائق)، ويُتحفنا بمهرجانٍ مبهرٍ من النقلاتِ المقامية على الطريقةِ الوهابيةِ الشهيرةِ، لنعرفَ قدرَه كأحدِ الكبارِ في فنونِ التلحينِ العربي. كيف؟

بعدَ لازمةٍ موسيقيةٍ بالغةِ العذوبةِ (حوار بين القانون وكورال الكمانجات) في مقام الحجاز، يبدأ فوزي في غناءِ المذهب برصانةٍ وسلطنةٍ بالغةٍ من مقام الحجاز الذي يبقى فيه بدون نقلات حتى نهاية المذهب. وكأنه يريدُ أن يُرسخ المقامَ الأساسيَ في أذنِ المستمع قبل أن يبدأ بهلوانياته المقامية في الكوبليهات. ولتعميقِ هذهِ الفكرةِ هناك لازمةٌ طبعت أسلوب محمد فوزي في التلحين وهي أنه لا يكتفي بين الكوبليهاتِ بتكرارِ غناءِ المذهب (كما جرى العُرف في الطقطوقة)، ولكنه غالباً ما يُكرر غناءَ المذهب وأداء المقدمة الموسيقية كاملة بين الكوبيلهات. وسيلاحظُ السميعُ الراسخُ أنه فعلَ ذلك في أغنيةِ طير بينا يا قلبي، وأيضا في هذه الأغنية الساحرة. فتلك علامتُه المسجلة وبصمته المميزة على قالب الطقطوقة.

على أي حال، يبدأ فوزي في استعراضِ مهاراتِه اللحنيةِ والغنائيةِ مع الكوبليهِ الأول، فيبدأه في أحدِ أفرع مقام الراست (يا ساكن في الهوى قلبي)، ومنه للكرد (معاك في عينيه وكفاية)، ومنه يعيدنا إلى الحجاز (أنا باشكي إليك منك) لنعود لغناء المذهب. بعبارة أخرى، هذه 3 نقلات مقامية في 3 أبيات!!

وفي الكوبليه الثاني، يبدأ من فرعٍ آخر لمقام الحجاز، ومنه للكرد، ثم يختم مجددا بالحجاز. يعني أنه تبنى نفس تقسيم الكوبليه الأول، ولكنه غير فقط في المطلع (بدأ من الحجاز بدلا من الراست). نفس الشيء تجده في الكوبليه الثالث، يبدأ من أحد أفرع مقام السيكا (اسمه الدقيق: مقام الهُزام)، ثم يعود للحجاز بطريق الكرد كما فعل في الكوبلهين السابقين.

بعبارةٍ أخرى، يجمعُ فوزي في هذا اللحنِ الفذِ بين تنويعِ المقاماتِ، ولكن ضمنَ بنيةٍ لحنيةٍ واحدةٍ قوامُها التنويع المقامي في البيت الأول من كل كوبليه (راست، ثم حجاز، ثم هزام على التوالي)، ثم الالتزام في البيتين الثاني والثالث بنفس البنية المقامية المتكررة في كل الكوبليهات (العودة للحجاز مرورا بمقام الكرد). وهذا تحديدا، هو ما يمكن أن نسميه التنويعَ المقامي، ولكن مع الحفاظِ على الوحدةِ العضويةِ للحن. ففوزي ملحنٌ يفكرُ، وعقلُه مسيطرٌ تماماً على اللحنِ، وقادرٌ على ابتكارِ التطريبِ والنقلاتِ المقاميةِ ضمنَ تصورٍ هندسيٍ واضحٍ للحن ونقلاتِه. شيءٌ ساحرٌ فعلاً.

-8-

ساكن في حي السيّدة: حكايةُ عشقٍ وعشمٍ

من بين أجملِ الأغاني الممثلةِ للخطِ الثالثِ، الشعبي، في المشروع الموسيقي لمحمد فوزي، هذه الدرةُ الرائعةُ التي لحنَها فوزي للمطربِ الشعبيِ العملاق محمد عبد المطلب عام 1960 (بعد عامٍ واحدٍ من اعتزالِ فوزي السينما الغنائية وبدءِ مشاكلِه الصحية، التي أجبرته على الاقتصارِ على التلحينِ لغيره من الأصوات)، من كلماتِ الشاعر زين العابدين عبد الله، مقام الكرد.  

 

مما يثير الانتباه أن كلماتِ هذه الأغنية، والمنطقَ المضمرَ فيها، يختزلان ببساطةٍ ماكرةٍ أهمِ خصائصِ نمطِ التدين الشعبي في مصر المحروسة. تدينُ "ساعة لقلبك وساعة لربك" حسب العبارة الدارجة، حيث تلتبسُ مشاعرُ الوجدِ الدينيِ ومتطلبات الأنسِ والحبِ الدنيوي، وتُغلف الدنيا والدين بغلافٍ بالغِ الرقةِ والعذوبةِ، قوامه الجمعُ بين حبِ البهجةِ الدنيويةِ و"العشمِ في وجهِ الربِ الكريم" كما يقول المصريون.

فانظر مثلاً إلى تجويدِ القرآنِ الكريمِ وتقاليدِ الإنشادِ والابتهالِ ورفعِ الآذان، تجدُ ذلك المزيجَ الفريدَ من التقوى والطربِ، الإيمانِ والسلطنةِ. وتأمل علاقةَ التدينِ الشعبيِ في مصر المحروسةِ بالأولياءِ وموالدِهم، تجدُ قدراً مدهشاً من "العشمِ" في تجاوبِ الأولياءِ، بمكانتِهم الدينيةِ الرفيعةِ، مع متطلباتِ قضاءِ الحاجاتِ الدنيويةِ من أولِ رفعِ المظالمِ (من هنا مثلا لقبُ "رئيسة الدواوين" الذي يُطلق على السيدة زينب في مصر المحروسة) ووصولا لتأليفِ قلبِ المحبوب.

وللقارئِ المهتمِ هنا، أن يراجعَ مثلاً دراسةَ عالمِ الاجتماعِ المصريِ العظيمِ د. سيد عويس عن الخطاباتِ التي يُتركها المريدون في مقامِ جامع الحسين، وسيُدهش من حجمِ ونسبةِ "المهامِ الرومانسيةِ" التي توكلُها هذه الخطاباتُ للحسين، في تطبيقٍ مدهشٍ للجمعِ بين "ساعةِ الرب وساعةِ القلب" وتوسلٍ واضحٍ بالمحبةِ (بكل معاني الكلمة) طريقاً للدين، فيما يُعد تمايزاً صارخاً عن أنماطِ التدينِ الصحراويِ ونزعتِها لإذكاءِ "الترهيبِ وعقدِ الذنبِ" كوسيلة للإيمان، وترفعِها "التطهري" عن المقاصدِ الدنيويةِ وفي قلبِها المحبة. 

ولعل العلاقةَ مع الأولياءِ، وتقاليدَ الموالدِ المصريةِ الساحرةِ، هي آخرُ ساحاتِ المقاومةِ لأصحابِ "تدينِ البهجةِ والعشمِ" في مواجهة موجةِ التدينِ الصحراويِ الجافِ. لكن هذا حديثٌ آخر.

-9-

ما يعنينا في هذا المقالِ، هو أن كلَ هذه الأجواءِ تختصرُها كلماتُ هذه الأغنيةِ الشعبية البديعة. وهي أغنيةٌ شعبيةٌ بثلاثةِ معان للكلمةِ على الأقل.

أولاً: تدورُ كلُ أحداثِ الأغنيةِ في عالمٍ صغيرٍ لا تزيدُ مساحتُه عن خمسة أو سبعة كيلومترات مربعة، هي المسافةُ بين حيي السيدة زينب وحي الحسين. لكن القارئَ الأريب سيذكر مثلاً أن الموكب الشهير للطرق الصوفية المصرية (الذي تتصدره الطريقتان الرفاعية والشاذلية عادة) في مولد النبي من كل عام، يغطي هذه المسافة العتيدة مرورا بمنطقةِ الرفاعي (حيث المقامِ الشهير)، فالحلمية (ذات الليالي التي خلدها أسامة أنور عكاشة في عملِه الأشهر)، ثم باب الخلق والغورية والأزهر، وصولا للحسين. بعبارة أخرى، عالمُ الأغنيةِ المغلقُ بين حيي السيدة والحسين، هو عالمُ القاهرة الشعبية بامتياز، وأحيائها الضاربةِ في الزمن والحاضنة لتقاليد الدين والبهجة والعشم.

ثانيا: تُراوح الكلماتُ بسلاسةٍ ماكرةٍ في عمقِها بين العلاقةِ الحميمةِ بين ساكنِ كلِ حي والوليِ الذي اعتادَ التبركَ به والتوسلَ بمكانتِه لتحقيقِ أغراضه وقضاء حاجاته، والتماهي مع أرض/حي المحبوب، ووليِ هذه الأرض/الحي. فحيرة العاشق مع محبوبه، تترجم إلى حيرة أكبر "وأنا قلبي متحير ما بين السيدة وسيدنا الحسين". والتوظيفُ المصريُ العتيدُ -على الطريقة التي رصدها العالمُ الكبيرُ سيد عويس- للعلاقةِ مع الأولياءِ لتأليفِ قلبِ المحبوب، حاضرةٌ في ندرِ المحبِ أن يردَ الجميلَ للأولياءِ لو قاموا بتأليفِ قلبِ محبوبِه عبر إيقادِ الشموعِ للسيدة وللحسين معاً.

ثالثا: لاحظ أيضا تعددَ مستوى الدلالةِ في استخدامِ كلمتي "السيدة" و"سيدنا الحسين"، فتارةً يشيران للأحياءِ (في البيتِ الافتتاحي للأغنيةِ، أو في قولِ الشاعرِ في ختامِ الكوبليهِ الثالثِ مثلاً: "والفرحة تبقى فرحتين... من السيدة لسيدنا الحسين") وتارة يشيران للأولياء (البيت الختامي للكوبليه الثاني: وأقيد بنفسي شمعتين.. للسيدة وسيدنا الحسين). هذه المزاوجةُ بين الديني والدنيوي، والجمعُ بين العشقِ الدنيوي والعشمِ في كراماتِ الأولياء، علامةٌ مسجلةٌ لا تخطئُها عين العارفِ بالثقافةِ الشعبيةِ المصريةِ.     

-10-

هذا من حيث مضمون الكلمات، فأما عن شكلِها، فهو طقطوقةٌ، تتكون من مذهبٍ وثلاث كوبليهات، مع تركيبٍ للقوافي بالغِ الرقةِ والجمالِ.

فالمذهبُ عبارةٌ عن بيتين، تتطابقُ قوافي صدريهما وعجزيهما (السيدة/الرضا، الحسين/مرتين)، مع شطرٍ ختامي في نهاية المذهب يكرسُ حدودَ عالمِ الأغنيةِ، ملتزماً بقافيةِ عجزِ بيتي المذهب (من السيدة لسيدنا الحسين).

أما الكوبليهات، فيتكون كلٌ منها من 3 أبيات، تتطابقُ قوافي البيتين الأولين، ثم يعودُ البيتُ الثالثُ (صدراً وعجزاً) إلى القافيةِ الأصليةِ للمذهب. هكذا نجد في الكوبليه الأول تطابق القوافي في صدرِ وعجزِ البيتين الأولين (الغزال/قال، حينا/هنا) ثم يعودُ البيتُ الأخيرُ إلى "وأنا قلبي متحير ما بين/السيدة وسيدنا الحسين". ويتكررُ الأمرُ في الكوبليهِ الثاني (يميل/الجميل، مهجتي/محبتي، ثم "وأقيد بنفسي شمعتين/للسيدة وسيدنا الحسين")، والثالث (الحبيب/نصيب، الهوى/سوا، ثم "والفرحة تبقى فرحتين/من السيدة لسيدنا الحسين").

-11-

لحنياً، يتألقُ محمد فوزي بشكلٍ استثنائيٍ في هذا اللحنِ الفذ. فهو يبدأ (اعتباراً من المقدمةِ الموسيقيةِ الرائعةِ، وطوالِ المذهب) من مقام الكرد، الذي سيذكرُ القارئُ أنه نفس المقالِ المستخدمِ في اللحنِ التجريبيِ على إيقاعِ الفوكس تروت "طير بينا يا قلبي"، الذي استمعنا له في بداية المقال.

لكن ثراءَ الخيالِ اللحنيِ لمحمد فوزي يظهرُ بوضوحٍ في التباينِ الكبيرِ في طريقةِ استخدامِ نفسِ المقامِ في الأغنيتين. ففي "طير بينا يا قلبي" يستخدم فوزي مقامَ الكرد كمقام رشيق شائع في الغناء الغربي وملائم لإيقاع الفوكس تروت، ولأغراض لحنه التجريبي لها.

أما في هذه الأغنيةِ، فيُذكِرُنا فوزي بأن مقامَ الكرد أيضاً هو مقامٌ عربيٌ عتيٌد، يشيعُ استخدامُه في تجويدِ القرآنِ الكريمِ وإنشادِ التواشيحِ ورفع الأذان. فالقارئُ المصريُ الأشهرُ في منتصفِ القرنِ العشرينِ "الشيخ علي محمود" كان يُسمى بين المشايخ "بملك الكرد" لإجادتِه الفائقةِ للقراءةِ والابتهالِ ورفع الأذانِ من هذا المقام الشجي. وقد يتذكرُ القارئُ مثلاً الإشاراتِ المتكررةَ لهذا المقرئ/المبتهل/المؤذن في عددٍ من رواياتِ نجيب محفوظ (مثال: الثلاثية والمرايا وحكايات حارتنا).

من هنا، يبدأُ فوزي بمقدمةٍ بالغةِ العذوبةِ يؤديها كورالُ الكمان من مقامِ الكرد، ثم يبدأ عبد المطلب في الغناءِ من مقامِ الكرد أيضا، والذي يبقى فيه طوالَ المذهب (مرةً أخرى الثبات المقامي في المذهب عند محمد فوزي، بغية ترسيخ المقامِ الرئيسي في أذنِ السميعة قبلَ التجريب في الكوبليهات، بنفسِ الطريقةِ التي استخدمها فوزي في أغنية "تملي في قلبي" أعلاه).

وفي الكوبليه الأول يبدأ فوزي من الكرد (ضماناً للاستمراريةِ مع المذهب) ثم ينتقلُ للراست (وكل واحد عني قال عاشق)، قبل أن يعود ثانية للكرد بسلاسة مدهشة (وأنا قلبي متحير ما بين...الخ)، ويسلمنا مجدداً للمذهب الذي يؤدَى من مقام الكرد كما قلنا. وجرياً على عادتِه التي أشرنا إليها سابقاً، لا يكتفي فوزي بتكرارِ المذهبِ بين الكوبليهات وإنما يكررُ معه اللازمةَ الموسيقيةَ كاملةً (فهذه هي بصمتُه المميزةُ على قالبِ الطقطوقةِ كما أوضحنا).

ينتقل فوزي بعد ذلك لمقامٍ شرقيٍ عتيدٍ في مطلعِ الكوبليهِ الثاني وهو مقام "الصبا"، في اختيارٍ لافتٍ بذكائه. فالأجواءُ الشجيةُ/الحزينةُ قليلاً لمقامِ الصبا تناسبُ ألمَ العاشقِ الذي يُحيرُه عدمُ تجاوبِ المحبوبِ، فيجأرُ بالوجدِ للأولياءِ، ناذراً أن يردَ جميلَهم لو تجاوبَ معه المحبوبُ "ندر علي لو يميل/ ويحب يسعد مهجتي"، قبل أن يعودَ للكردِ ومن ثمَ التسليمة والعودة للمذهب واللازمة الموسيقية.

أما في الكوبليه الثالث، فيختار فوزي أن ينتقلَ من مقامِ الكرد إلى شقيقِه، مقامِ البياتي (وقد أوضحنا صلةَ القربى بينهما في مطلع المقال، والتي جعلت الأقدمون يسمون مقامَ الكرد "بياتي الفلامنكو" في إشارةٍ واضحة لصلةِ القربى بين المقامين). هكذا، يصدحُ عبد المطلب من مقامِ البياتي وهو يذهبُ لدارِ المحبوبِ ليفصحَ عن مكنونِ قلبِه "أفوت على بيت الحبيب/أقول جريح ياهل الهوى"، ثم يعود ليختم الأغنية من الكرد كما بدأها.

ولأن المغني هو العبقري محمد عبد المطلب، عين أعيان دولة الطرب الشعبي، الذي يمتلكُ ناصيةَ الغناءِ العربيِ امتلاكاً كاملاً، يظهرُ ليسَ فقط في السيطرةِ المطلقةِ على النقلاتِ المقاميةِ والقفلاتِ التطريبيةِ في كلِ كوبليهِ، وإنما أيضاً في بصمتِه المميزةِ، وهي فن الموال. فهو يمهد للكوبليه الثالث بموالٍ من نفس مقام الكوبليهِ (البياتي، مع غمزات لمقام الراست والكرد).. موالٌ طريفٌ يتغزل في "جمال بلدي" في تورية لا أعرف إن كانت مزدوجة (تراوح بين جمالِ البلادِ، والتلميحِ الطريفِ للجمالِ البلديِ الذي تتغزل فيه كلماتُ الأغنيةِ الشعبية)، أم ثلاثية (تضيفُ أيضاً تحيةً لرئيسِ البلاد وقتها الرئيس جمال عبد الناصر، على الطريقةِ التي شاع استخدامها في عدد من أغاني تلك المرحلة، فتجدها مثلا في أغنية فريد الأطرش الشعبية "سنة وسنتين" عندما يقول "وأفدي جمالك وأفدي رمالك" فيصفق المستمعون تحية لعبد الناصر الجالس يستمع للأغنية معهم، وهي توريةٌ استخدمتها أم كلثوم أيضاً في أغنية "طوف وشوف" واستخدمها مطربون آخرون في نفس المرحلة).

في كلِ الأحوالِ، فإنني لم أجدُ خيراً من هذه الأغنيةِ البديعةِ، بكلماتِها الضاربةِ في عمق البهجةِ والعشمِ والوجدِ وتدينِ المصريين الشعبي بخلطتِه الدنيويةِ العجيبةِ، ولحنِها الشرقي الساحرِ بنقلاتِه المقاميةِ السلسةِ، وصوتِ عبد المطلب العملاق، لأختمَ بها هذه الجولةَ التي آملُ أن تفتحَ شهيةَ القارئِ للولوجِ لمختلفِ جوانبِ العالمِ بالغِ الثراءِ للملحن العبقري المظلومِ محمد فوزي.

استمتعوا وتسلطنوا! وإلى لقاء قريب في المقال المقبل.

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved