السرد فى مواجهة الإبادة!

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 26 يوليه 2025 - 7:32 م بتوقيت القاهرة

أتابع بكل تقدير ومحبة الإنتاج المعرفى والترجمى للكاتب والمبدع والمترجم الشاب أحمد سمير سعد. أُقدّر اختياراته التى تجمع بين سعة الاطلاع والاستيعاب للموضوع، والقدرة على نقله إلى العربية بأبسط طريق، وأسلسه، وأوضحه.إذا أردت دليلا على ما أقول، فيمكنك الرجوع إلى ترجمته العربية الناصعة للكتاب الضخم الذى ألّفه جيم باجوت عن «القنبلة الذرية»، هذا الكتاب المرجع الذى لا يمكن قراءته كاملا واستيفاء هذه القراءة، رغم عدد صفحاته الذى يجاوز الـ600 صفحة، إلا بفضل تلك السلاسة الأسلوبية والقدرة على تطويع اللغة العربية لاستيعاب هذا الحشد من المعلومات والقصص والوقائع المروية حول أخطر ما أنتجته القريحة البشرية فى القرن العشرين: «القنبلة الذرية».
وقد أحالنى هذا الكتاب المهم، الذى يتتبع تاريخ القنبلة الذرية من منظور علمى فيزيائى تاريخى، وأثر ذلك على الحياة والبشر، إلى روايةٍ جميلة قرأتها قبل ثلاثة عشر عامًا، وتحمّست لها جدًا فى حينها، ولم أكن أدرك أنها واحدة من أهم الروايات وأجملها التى واجهت «سرديّا وروائيّا» مأساة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين عام 1945.
ثمانية عقود بالتمام والكمال على مأساة إلقاء القنبلة الذرية على ناجازاكى باليابان (09 أغسطس 1945)، وبعد ثلاثة أيام فقط من إلقاء القنبلة الأولى على هيروشيما (06 أغسطس 1945). قتلت قنبلة ناجازاكى ما يقرب من 40 ألف شخص فورًا، بينما لقى 30 ألفًا آخرون على الأقل مصرعهم نتيجة إصاباتهم أو بسبب التسمم الإشعاعى الذى تعرضوا له، علمًا بأنه لم يكن متاحًا إحصاء عدد الضحايا بشكلٍ دقيق. أما على صعيد الخسائر المادية، فقد تم تدمير نحو 40% من مبانى المدينة بالكامل أو بشكل جزئى.
(2)
هذا الدمار المهول، هذا العنف الأسود؛ ظل يطارد الضمير البشرى، وسيظل إلى أبد الآبدين. وانطلاقًا من هذه اللحظة التعيسة فى تاريخ البشرية، تنطلق أحداث الرواية الملحمية الرائعة «الظلال المحترقة» للروائية البريطانية من أصل باكستانى: كاميلا شمسى.
من بين كل ما قرأت من روايات عالجت الحرب العالمية الثانية، ومآسيها ونتائجها، لم تهزّنى رواية مثلما هزّتنى هذه الرواية، التى صدرت ترجمتها العربية عن دار بلومزبرى عام 2012. ولم أتصوّر أن أقرأ رواية بهذا الحشد الهائل من الشخصيات والأحداث والوقائع، التى تغطى ما يقرب من نصف القرن (الفترة من 1945 وحتى مطالع الألفية الثالثة)، وتغطى مكانيّا نصف الكرة الأرضية تقريبًا؛ من «ناجازاكى» اليابان إلى «دلهى» فى الهند، و«كراتشى» فى باكستان، ومرورًا بتركيا وأفغانستان، وصحراء إيران، ووصولا إلى نيويورك وواشنطن فى الولايات المتحدة الأمريكية.
لا أنسى أبدًا اكتشافى لهذه الملحمة الروائية المذهلة؛ كان طرحها لسؤال التاريخ عميقًا وشائكًا وملتبسًا: «التاريخ بحر عميق، وبمجرد سقوطك فيه، يصبح من اليسير أن تستمر فى السقوط إلى الأبد. وستتزاحم تساؤلات مستحيلة فى ذهنك بينما تتعثر قدماك.. كيف حدث ذلك؟ لماذا فعلوا ذلك؟ هل كل شىء مقدّر مسبقًا، أم أنه متشابك فحسب؟».. (من الرواية).
والغريب، أنه بعد قرابة عامين أو ثلاثة تقريبًا من صدور الترجمة العربية لـ «الظلال المحترقة»، بدأت الرواية تحقق رواجًا لافتًا، وانتبهت النخبة القارئة، من الكُتاب والروائيين والنقاد على السواء (فى عالمنا العربى)، إلى اسم كاميلا (أو كاملة) شمسى، التى لم يُترجم لها سوى هذه الرواية، ورواية أخرى بعنوان «نار الدار»، صدرت مطلع عام 2018.
(3)
لا أتردد فى وصفها بالرواية الملحمية؛ فقد اقتفت شمسى فى روايتها «الظلال المحترقة» أثر تاريخ عائلتين يمتد لجيلين أو ثلاثة (جيل الآباء، وجيل الأبناء)، منذ الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية فى اليابان، بإلقاء القنبلة النووية على ناجازاكى، ووقت أن كانت شبه القارة الهندية على شفا التقسيم إلى دولتين (الهند وباكستان)، حيث الأيام الأخيرة للراج (حاكم الهند)، وحتى مطلع الثمانينيات فى باكستان، وفى أعقاب هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 فى نيويورك، وفى أفغانستان فى أعقاب حملة القصف الأمريكية التى أعقبت الهجمات.
وعبر هذه الرحلة الطويلة، زمانيّا ومكانيّا، تلملم الكاتبة شظايا من كل مكان وثقافة باتجاه المحطة التالية، وتربط عناصر تاريخية وإنسانية بعيدة عن بعضها البعض، وقد تبدو غير ذات صلة من الأساس، فى شبكة سردية هائلة، لكنها مذهلة فى تدفّقها وسيولتها وترابطها وحكيها الجارى كما النهر.
«هيروكو تاناكا»، فتاة يابانية رقيقة الروح والملامح، كانت إحدى الناجيات من مأساة ناجازاكى المروّعة، بحروقٍ بارزة على ظهرها النحيف، وسحقٍ كامل للروح تحت وطأة فقدان الوطن والأهل، بعد أن وقعت فى حب الألمانى المهاجر «كونراد فايس»، فى خضم حرب بشعة تسودها مشاعر التوجس والفزع، وتغلب عليها أصوات صفارات الإنذار من الغارات والقنابل المدمّرة. إلا أن اهتماما شمسيا لا ينصب على سبر أغوار التعقيدات والحميمية فى هذه العلاقة التى جمعت هيروكو بهذا «المهاجر الغريب»، حيث يأتى موت كونراد جرّاء إلقاء القنبلة الذرية على ناجازاكى كأول حلقة فى سلسلة من المفاجآت الصادمة المتتابعة، التى تدفع بسرعة تطوّر السرد الروائى وتصاعده..


(وللحديث بقية)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved