تراث دار الكتب: من الاستعمار للاضمحلال

كريم ملاك
كريم ملاك

آخر تحديث: الإثنين 26 أغسطس 2019 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

«ولما علم عقلاء المستشرقين أن الحكومة المصرية فكرت فى جمع كتب المساجد، وأن هذه المساجد لا تّزال فيها الباقيات الصالحات وردوا إليها ورود الظمآن على العذبِ النمير، ورغبوا الحَفَظَة بالأصفرِ الخادع وأخذوا منها كلَّ ما قدروا عليهِ وما زال المستشرقون يردون على هذه الكتب المكاتب يختلسون منها ما يمكن اختلاسه إلى سنة ١٢٩٧ (١٨٧٩ــ١٨٨٠) فعلم سيد أُدباء عصرهِ المرحوم محمود باشا سامى البارودى أن مساجد الأوقاف لم تأخذ الكتبخانة الخديوية (دار الكتب المصرية) كل ما فيها.. وأصدر أمرهُ بنقل ما بقى فى مساجد الأوقاف إلى دار الكتب المصرية». هكذا جاءت ولادة دار الكتب المتعثرة بعد ضرورة قاسية وتبلورت عن فكرة ناظر الأشغال على باشا مبارك بتأسيس دار الكتبخانة الخديوية، أى دار الكتب، لجمع درر المساجد وحمايتها من الاستعمار الذى كان يأخذ ما يحلو له.
تأسست دار الكتب عام ١٨٧٠ كما حُكى لنا فى كتاب «أصدقاء مطبعة دار المعارف» لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مطامع الأجانب المستعمرين. حضر الخديوى إسماعيل يوم الأحد العاشر من إبريل عام ١٨٧٠ لافتتاحها فى تمام الساعة الحادية عشرة. يقول لنا السجل التاريخى لدار الكتب إنه تم اختيار ديوان المدارس فى درب الجماميز «فى مكان جميل مساعد على حفظ الكتب من الآفات مستجمع للشروط اللازمة من النور وطيب الهواء وغير ذلك مما هو على طبق مرغوب جناب الخديوى الكريم حيث كانت الإرادة السنية أن يجمع فيها الكتب النفيسة التى بخط اليد المتفرقة فى المساجد القديمة والمؤلفات المطبوعة بأن توضع فى دواليب بكيفية مخصوصة يسهل بها مراجعتها لكل من أراد». فمنذ عام ١٨٧٠ وهناك عدة شواهد على قيام الأجانب بالتنقيب عن الآثار وسرقة مخطوطات مصر النفيسة، مثل كتابات على باشا مبارك، الأمر الذى جعله يسعى لإنشاء دار الكتب «على مقتضى الأصول الهندسية والقوانين المعمارية فى سراية درب الجماميز» لحمايتها من السرقة والتلف.
***
ولكن حال دار الكتب اليوم بعيد كل البعض عن هذا السعى. رحل الاستعمار وبقى لنا أيادٍ مصرية خبيثة هى التى تتلف الكتب وأجهزة الميكروفيلم التى تُستخدم لقراءة الكتب النادرة المحفوظة على أفلام نيجاتيف، ناهيك عن الكتب التى فى إدارة الترميم منذ عدة سنين التى لم ترَ الضوء. غُلقت طوابق بالكامل من الكتب نتيجة أعطال هذه الدواليب وصار هناك اليوم عقبة منيعة تمنع زوار دار الكتب من الاطلاع على هذه الدرر رغم زوال العقبة الأصلية: الاستعمار. كل هذا مفهوم فى ظل ميزانية تقشف لا تحمل أولوية للكتب أو العلم وموظفين بشوشين لا حول ولا قوة لهم إلا المطالبة بالمزيد من الموارد.
ولكن فى وسط كل هذا نرى ميزانية جديدة لدار الكتب تسعى «لتطوير» المكان، ولكن للأسف ليس هناك مليم من هذه الميزانية مخصصا لهذه المشاكل، بل أصبحت هذه الميزانية مخصصة للتجهيزات غير المطلوبة، أو قل، أولويات تقشفية مثل تجهيز أرفف لعرض مطبوعات دار الكتب. صحيح أن حر الصيف شاق على كل باحث يذهب لدار الكتب، وأن بفضل هذه الميزانية تم تطوير قاعة الاطلاع ووضع أجهزة تكييف، لكن فى وسط هذا التطوير تم سحب أدراج الكروت المفهرسة التى تحتوى على سجل لكل كتب دار الكتب ولست أتصور أن بعد عدة سنين سيتم خفض عمالة قاعة الاطلاع لتنفيذ أجندة تقشفية وإلغاء بعض من وظائف قاعة الاطلاع مثل قسم «الإرشاد» نتيجة تكهين أدراج الكروت المفهرسة. هل يعقل أن فى ظل وفرة موارد يتم إعدام هذه الأدراج وتكهينها التى لا تكلف مليما ويتم صرف أموال نحن فى أمس الحاجة إليها على مجرد تبييض محارة ودهان وتكييف؟ أقل شىء كان مفروضا أن يتم هو ترقيم هذه الأدراج وحفظها على قاعدة بيانات نظام البحث الإلكترونى الكائن بدار الكتب. هل أصبح الحال بنا اليوم أننا نرمى أموالنا وسجلات كُتبنا وصرنا نعتمد على أجهزة البحث الإلكترونى التى ربما لا تحتوى على أقصى تقدير على ١٥٪ من الفهارس اليدوية المطبوعة؟
ربما هذا ما تريده دار الكتب والميزانية التقشفية المفروضة عليها: تحويلها لمبنى أشباح وإعدام مصير العديد من الكنوز التى ستصبح بدون سجل أو رقم استدعاء لجلبها والاطلاع عليها، حتى رويدا رويدا تتحول دار الكتب لهيئة حكومية تدر دخلا بدلا مما أراده على مبارك باشا وهو الحفاظ على الكتب نفيسة. ولست أتصور ببعيد أن تتسرب هذه الكتب، التى أصبحت بلا سجل يسمح للزائر بدار الكتب الاطلاع عليها، قليلا بقليل إلى سوق الكتب القيمة فى المنطقة. فمن حين لآخر نسمع عن وفد آتٍ لمصر من الجامعات الخليجية ليشترى كل ما يُوضع تحت عينيه فى القاهرة. وبهذا تدخل دار الكتب مرحلة الاضمحلال نتيجة مطامع سوق الكتب و«التطوير» الذى تم بعد أن خرجت من مرحلة الاستعمار، وهى مرحلة أحمد الله أنه لم يعش على مبارك باشا ليشاهدها لأنى لن أستطيع تصور رد فعله على أنه جاء اليوم ليخرج الاستعمار من مصر ويحل محله أيادٍ مصرية تفعل ما كان يفعله الاستعمار بنفسه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved