مغامَرَة خمسينية

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 26 أغسطس 2021 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

طوال فترة وقوفها في الطابور الطويل ظل ذهنها يعمل بكل طاقته، مَن يراها وهي تقف منتصبة القامة وواثقة من نفسها لا يمكن أبدًا أن يدور بخياله الفوضى العارمة التي تعصف بمشاعرها. هذه الفوضى كانت تزيد كلما تقدمت خطوة إلى الأمام. تطوّح يدها الممسكة بكف حفيدتها في الهواء كأنه لا شيء يعنيها بالمرة مع أن الذي يعنيها كان كثيرًا جدًا. تجول بعينيها في المكان علها تعثر على عامل مرجّح للقرار الذي عليها اتخاذه: تقطع تذكرتين أم تذكرة واحدة؟. لافتة كبيرة مكتوب عليها بعض ضوابط اللعبة منها ألا يقل العمر عن سبع سنوات، هذا عن الحد الأدنى لكن ماذا عن الحد الأقصى؟ لا توجد كلمة واحدة. الطابور يقصُر ودورها يتقدم ولا أحد يساعدها على قرار ينهي فوضاها الداخلية والصراع المحتدم فيها بين اتجاهين: اتجاه العقل زينة واتجاه الحياة حلوة. تتلفت حولها فلا تجد إلا أطفالًا وشبابًا لينكمش قلبها، فإذا كان لا حد أقصى للسن فلماذا لا يوجد خمسيني أو خمسينية مثلها؟ فات الوقت، بقى أمامها ثلاثة.. اثنان.. هي الآن تمد يدها لتقطع تذكرتين واحدة لطفلة والأخرى لبالِغة.
•••
سلمّتهما سيدة ذات بنية قوية خوذتين وبدلتين لزوم التشعلق في الهواء، فعند الخصر كان يوجد حزام له قفل حديدي مُحكَم الغلق تخرج منه حمّالتان طويلتان تصلان كل لاعب بروافع عالية. هاتان الحمالتان هما الضمانة الوحيدة لأنه في حال زلّت القدم لن يسقط اللاعب على الأرض، وهذا أمر جيد لكنه سيبقى معلقًا في الهواء، وتلك كارثة. يا الله! ماذا فعلَت بنفسها هذه المجنونة في لحظة طيش؟ إنها بالكاد تمارس رياضة المشي على فترات متقطعة حسب نصيحة الأطباء، وشتّان بين المشي على الأرض والمشي في الهواء. ماذا تريد أن تثبت لنفسها بالضبط، أنها تتمتع بلياقة بدنية أو بالأحرى أنها مازالت شابة؟ زمااان عندما كانت تصطحب أطفالها إلى ديزني لاند وكانوا يمارسون هذه الألعاب الخطرة كانت ترفض بإصرار وتصرخ في وجوههم مكرِرة أنه لا داعي أبدًا للمغامرة، ثم تلين بالتدريج أمام بكائهم وتروح تقطع الدقائق التي تستغرقها ألعابهم وهي تتلو كل ما يأتي على بالها من قرآن، قلبها يخفق.. يا رب احفظهم، يا رب سلّم، يا رب أعدهم لي. لكن ولا مرة واحدة فكرت مجرد تفكير أن تلعب معهم ولو من باب أن تكون عينها عليهم، قلبها لا يحتمل ولم تكن تحتاج أن تثبت لنفسها أنها شابة، الآن تحتاج في لحظة ضعف لمثل هذا الإثبات مع أن عدم قدرة قلبها على الاحتمال زادت. إنها تفضّل أن تطلق على اللحظة التي قررت فيها أن تلعب هذه اللعبة الخطرة وصف لحظة ضعف وليس لحظة طيش، فالضعف يتعايش مع العقل أما الطيش فهو والعقل نقيضان، وهي عاقلة.
•••
سبقتها العفريتة الصغيرة إلى اللعبة إياها وعيناها تلمعان من فرط الإثارة، لقد جرّبتها كثيرًا ولم تشبع أبدًا من الإثارة التي تكتنف خطواتها، سبقتها وأشارت لها بيدها إشارة تفيد: ما تتأخريش. سارت الجدّة بحذر فوق الجسر الخشبي ووضعت قدميها على طريق الألف ميل، كان الطريق يبدأ بمجموعة من إطارات السيارات المتصلة ببعضها عبر سلاسل حديدية. الإطار يهتز من تحتها وقلبها يتأرجح معه، وهذه فقط هي أول القصيدة. انتقلت من الإطار الأول للثاني للثالث بسلام، وحرّكت الحمالتين اللتين تصلانها بأعلى للأمام بما يتناسب مع تقدُم خطواتها، طارت كل آيات القرآن من رأسها ولم تعد تذكر إلا يا رب، قالتها عشرات المرات أو مئات، ليس هذا وقت العدّ لا يوجد وقت أصلًا. أنهت مرحلة الإطارات بسلام وكانت حفيدتها قد سبقتها للمرحلة التالية، الانتقال إلى أعلى قليلًا عبر سلم خشبي رجراج ذات اليمين وذات الشمال، ستنظر الآن إلى ما تفعله الحفيدة وتقلده بالضبط، تقبض على الحمالتين وتركّز بشدة وتتحرك بحذر، نعم تفعل كل ذلك لكن التوازن مختلف والعمر مختلف جدًا. الحمد لله هذه المرحلة مرّت هي الأخرى بسلام، الآن إلى الأصعب، الصعود لأعلى أكثر للسير على حبل غليظ. مع أول خطوة على الحبل اختل توازنها وصارت معلّقة في الهواء عبر الحمالتين كأنها سوبرمان.. وقع المحظور، المشرفون على اللعبة ينادونها عبر مكبّر للصوت بأن عليها أن تتماسك وتحاول العودة للحبل ويطمئنونها على أن هذا يتكرر كثيرًا أما الحوادث فإنها نادرًا ما تحدث، نادرًا قد إيه يعني؟! مَن أدراها أنها لن تكون من النوادر؟ يا رب. حاولَت أن تعود للحبل فزّلت قدمها مجددًا وظلت طائرة، ما العمل؟ إنها لا تعرف متى بالضبط سيتدخل المشرفون على اللعبة لمساعدتها والأرجح أنهم لن يتدخلوا في هذه المرحلة وإلا ما كانوا طالبوها بالتماسك وتكرار المحاولة، يا رب. مرة أخرى جذبَت الحمالتين لأسفل وشدّت أعصابها ونزلت بكل ما تستطيع من قوة لتضع قدمها على الحبل، وللمفاجأة وجدَت قدمها تستقر عليه، فوضعَت القدَم الثانية، وسمعتهم عبر مكبّر الصوت يشجعونها: good job، هي فعلًا قامت بعمل جيد. من الحبل انتقلت إلى علب خشبية فإطارات السيارات نزولًا مرة أخرى إلى الجسر الخشبي حيث محطة نهاية المستوى الأول من صعوبة اللعبة، هذا المستوى الأول هو المستوى الأخير بالنسبة لها، فالثاني يحتاج أعصابًا أقوى وأعصابها صارت فتافيت.
•••
عندما لامَسَت الأرض وراحت تخلع الخوذة والبدلة والحزام الحديدي والحمالتين كانت تشعر أنها مازالت معلّقة في الهواء وأن ساقيها مازالا يصطكان ببعضهما من الخوف، حتى هذه اللحظة لم تكن تصدّق أنها نجت وأن لطف الله بها كان عظيمًا. لكن بعد أن استوعبَت الموقف تلبسَتها روح بطلة الكارتيه المصرية العالمية فريال أشرف، طبعًا لا مقارنة أصلًا، لكن في الحالتين يوجد إنجاز وما فعلته صاحبتنا يقاس بظروفه العُمرية والصحية. ترددت في أذنيها عشرات الأغاني المفرحة تغنيها نفسها لنفسها، لوّحت لحفيدتها الحبيبة وهي فووووق تلعب في المستوى الثاني من اللعبة.. يا رب احفظها.. يا رب سلّم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved