الحكومة متهم أول

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: السبت 26 سبتمبر 2009 - 9:18 ص بتوقيت القاهرة

 هذه قصة من ذلك النوع الذى تصيبك وقائعه بالكآبة فى عز العيد. الشخصية المحورية فيها مزارع يبلغ من العمر ثلاثين عاما، اسمه شعبان سعد، يعيش فى إحدى القرى المجاورة لمدينة طنطا عاصمة محافظة الغربية، هذا الرجل أنجب طفلا فى أواخر شهر رمضان، وقيل له إنه يحتاج إلى جهاز للتنفس الصناعى. فحمله وذهب به إلى حضانة تابعة لمستشفى خاص فى طنطا. وما إن عرض عليهم الأمر حتى طلبوا منه إيداع مبلغ 2400 جنيه كمقدم للسماح للطفل بالدخول.

دفع الرجل المبلغ صاغرا، وظل يتردد على طفله كل يوم لكى يتابع حالته. وفى اليوم الخامس طالبته إدارة المستشفى بسداد مبلغ ألفى جنيه إضافية، أسقط فى يده، فخرج من المستشفى لكى يبحث عن حضانة مجانية تستطيع استقبال ابنه الرضيع. وبعدما حفيت قدماه ولم يعثر على ضالته عاد إلى المستشفى مرة أخرى ليجد أنهم رفعوا جهاز التنفس الصناعى، وأن الطفل فارق الحياة، جن جنون الرجل وذهب إلى أقرب مركز للشرطة حيث حرر محضرا ضد إدارة المستشفى، متهما إياها بقتل طفله.

الأدهى من ذلك والأمر أنه حين أراد أن يتسلم جثمان الطفل لكى يدفنه فإن إدارة المستشفى رفضت تسليم الجثة إلا بعد أن يسدد الرجل بقية الحساب!

فى القصة التى نشرها الأهرام (عدد 22/9) أن وكيل وزارة الصحة بمحافظة الغربية اهتم بالموضوع، وأن الطبيب الشرعى سيحدد ما إذا كانت وفاة الطفل حدثت بسبب رفع جهاز التنفس الصناعى عنه، أم أنه كان قد مات ثم تم رفع الجهاز بعد ذلك. وفى ضوء ذلك البحث ستتحدد الإجراءات التى يتعين اتخاذها فى مواجهة الأطراف المسئولة.

تثير القصة أكثر من ملاحظة. فأنا لا أريد أن أصدق أن تكون إدارة المستشفى قد قررت رفع جهاز التنفس عن الطفل الرضيع مما أدى إلى موته. لأننا نصبح بإزاء جريمة قتل عمد، ينبغى أن يجرم كل من شارك فيها بالتحريض والتنفيذ. مع ذلك فلا مفر من الاعتراف بتعدد حالات طرد المرضى من بعض المستشفيات لعجزهم عن تدبير نفقات العلاج مما أدى إلى وفاة بعضهم، الأمر الذى يسلط الضوء على ثلاثة أمور، أولها فشل الدولة فى تدبير الرعاية الطبية اللازمة للمعوزين، وثانيها جشع بعض أصحاب المستشفيات وعزل الضمير عن المهنة فى تلك الحالات، أما الأمر الثالث فيتمثل فى حجم الانقلاب الذى حدث فى منظومة القيم السائدة، وطغيان قيمة الاتجار بأى شىء وتحقيق الكسب السريع بصرف النظر عما هو مشروع أو غير مشروع.

من ناحية أخرى، فإن ما جرى يسلط الضوء على عذابات الفقراء فى هذا البلد، وعدم وجود أى غطاء يوفر لهم الحق فى الحياة. وللعلم فإن الرجل الذى فقد ابنه الرضيع ليس من المعدمين. لأنه استطاع أن يوفر 2400 جنيه لعلاج ابنه فى يوم دخوله إلى المستشفى، وهو مبلغ يعجز عن تدبيره ملايين المصريين إذا ما طولبوا به فجأة. كما أنه يفوق قدرة ثلاثة أرباع موظفى الحكومة، إذا ما تعرض أى واحد منهم لمثل هذا الموقف.

فى الوقت ذاته فإن ما جرى يثير سؤالا كبيرا حول القاتل الحقيقى لابن المزارع شعبان سعد. لأن مختلف الشواهد تشكك فى صدق المعلومات التى روجت لها الصحف حول توفير التأمين الصحى للأطفال منذ ولادتهم. إذ الثابت أن الصحف زفت تلك الأخبار للناس وأشادت بها، لكن الحكومة اكتفت بالنشر فى الصحف، ولم تعتمد أى مبلغ لتنفيذ المشروع. وهو ما يعنى أن المتهم الأول فى جريمة قتل الطفل الرضيع ليس مستشفى مدينة طنطا. وإذا ما أثبت تقرير الطبيب الشرعى مسئولية إدارة المستشفى عن وقوع الجريمة، فإنها يجب أن تضم إلى لائحة الاتهام كمتهم ثان. والمشكلة فى هذه الحالة أن المتهم الأول الذى هو فوق القانون سيفلت من العقاب، إذ بامتناع الحكومة عن التأمين على الأطفال بعد ولادتهم، فإن حالات قتل أبناء الفقراء سوف تستمر، وسيظل المسئول الأول عن القتل مطلق السراح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved