إما مصالحة تاريخية أو صراع يومي مفتوح

عبد المنعم أبو الفتوح
عبد المنعم أبو الفتوح

آخر تحديث: الخميس 26 سبتمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

•الحركات التاريخية الكبرى مرت بمثل ما نمر به من تعثر حتى وصلت إلى مراحل التماسك والنضج

• الشيطان سيكون فى التفاصيل لكن قيام «الكتلة» أصبح ضرورة قبل أن تسقط البلاد فى هاوية الاستبداد

•حين دعا طارق البشرى إلى إطار جامع يحتضن جماعات الأمة كنا نتصور أنه يتحدث عن «وادى الأحلام» لا عن «وادى النيل»

•«الكتلة التاريخية» تتنوع فى أفكارها وتحيزاتها الأيديولوجية وتتحد على هدف واضح هو الدفع بالثورة إلى الاستمرار حتى الاكتمال

•مواجهة الاستبداد والتسلط والفساد وارتهان القرار الوطنى لغير صالح الشعب يتم عبر كتلة تجمع الكفاءات بمختلف الانتماءات لبلورة أهداف كبرى لثورتنا

لم يكن صعبا توقع المسارات المتعثرة لثورة 25 يناير ومآلاتها التى آلت إليها، مما نراه الآن من تراجع وغياب لكثير من إلهاماتها وأحلامها وأهدافها، فهى أولا الثورة التى أتت بعد السنين الطوال من الحكم الفردى شبه العسكرى وتأثيراته البالغة السوء على مجمل حياتنا بكل مستوياتها ومكوناتها السياسية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية، وهى ثانيا الثورة التى تسلم قياداتها من لم يكن يؤمن بفكرتها ولا بضرورتها ابتداء..على اننا نعلم جيدا أن الحركات التاريخية الكبرى مرت بمثل ما نمر به من تعثر حتى وصلت إلى مراحل التماسك والنضج والاكتمال والتوازن.

خلال أكثر من عامين دخلت الثورة فى مدارات معقدة ومربكة وتدخلات وتأثيرات عديدة تراوحت بين قوى خارجية متعددة الأطراف ومتعاونة إلى أبعد الحدود فى ما بينها ضد الثورة وأفكارها، وتحاول تطويعها لهدمها أو لتحويلها إلى حالة رخوة مترددة قابلة للانحراف. أو ما رأيناه من الدخول المفاجئ والغزير للمال السياسى فى محاولة للسيطرة على مسار ما بعد الثورة أو توجيهها فى الاتجاه المضاد تماما، من خلال دعم هائل لتوجهات وأفكار وتيارات وجهات لا تمت بأية صلة لمبادئ وأهداف ومنهجية الثورة. رأينا التأثير السلبى لهذا المال فى خلط أوراق مسارات ما بعد الثورة وإدخالها فى صراعات سياسية وطائفية وفى صراعات الهوامش الفقهية والفكرية ذات الصخب والضجيج الفارغ.

وانتهاء بفشل شباب الثورة فى تكوين مشروع سياسى وتيار ثورى مشترك لتيسير وإنجاح المرحلة الانتقالية إلى حين وصول الثورة إلى مرحلة الأمان والاستقرار والرسوخ.. لقد ارتكبت أخطاء وخطايا لا حصر لها ولا عد وهى معروفة ولا تحتاج إلى إعادة تذكير بها.. لن نلوم من كان له الدور الأكبر فى صنع الجانب الأكبر من تلك الأخطاء والخطايا، سواء بسوء التقدير أو بسوء التطبيق أو بسوء التحالفات والتفاهمات أو بسوء الإدارة فى مراحل تالية.

نحن أمام إشكاليات حقيقية وكبرى ومصدرها قوى كثيرة متعددة عبر العالم كله لأنك تتحدث عن مصر، قلب الدنيا ومفتاح الشرق، مصر الموضع والموقع والكيان، بينما مواجهة هذه الاشكالات وآثارها الضخمة تتم على مستوى ضعيف للغاية، لغياب الإرادة العامة التى يعكسها تيار صلب ومتماسك يعرف الحد الأدنى والأقصى فيما يكون من مطالب وتفاهمات، وكيفية ترتيب هذه المطالب ضمن الأجندة الوطنية الأوسع والأشمل.

حينما دعا المستشار طارق البشرى، عام 2008، إلى إطار جامع يحتضن جماعات الأمة وطوائفها ومكوناتها السياسية والاجتماعية ويحافظ، فى آن، على تعددها وتنوعها، كنا نتصور أنه يتحدث عن (وادى الأحلام والأمانى) لا عن (وادى النيل)، فسياق الوقت آنئذ ما كان ليستوعب أو ليسع مثل هذه المفاهيم.

الآن تأتى الأهمية القصوى لطرح فكرة (الكتلة التاريخية) التى بشر بها المستشار البشرى، التى تتنوع فى أفكارها وتحيزاتها الأيديولوجية دون تصارع، بل وتتحد على هدف واضح ومحدد وهو الدفع بالثورة إلى الاستمرار حتى الاكتمال؛ نتائج وأهدافا.

لن نخترع العجلة من جديد ففكرة (الكتلة التاريخية) بأشكال عديدة من المسميات التى طرحت من قبل بواسطة العديد من المفكرين والناشطين السياسيين والجماعات والأحزاب، حركة كفاية مثلا وحركة ضمير الآن كلها تتفق على حد أدنى من الاختلاف وحدود مشتركة وكثيرة من التفاهم والاتفاق، كلها تتعلق بفكرة الإرادة الوطنية العامة، والأهداف الوطنية الكبرى التى تحقق للشعب حقوقه ومطالبه.

الشيطان سيكون فى التفاصيل كما يقولون؛ لكن قيام هذه (الكتلة تاريخية) أصبح ضرورة قصوى قبل أن تدخل البلاد فى حالة من الفراغ، ثم السقوط ( السياسى) فى هاوية الاستبداد والتسلط والديكتاتورية الحادة، وتضيع فرصة تاريخية عظمى لقيام الوطن كما ينبغى أن تكون قامته بين الأوطان، استنادا لموقع وموضع وتاريخ وشعب وحضارة.

مفهوم (الكتلة التاريخية) يؤجل، ولو قليلا، التفكير فى الواقع الحزبى بقدر ما، وأيضا تأجيل الخلاف والصراع الفكرى والسياسى بقدر ما، وهو الصراع الذى لا يرتبط فى حقيقة الأمر بالواقع العملى الأهم والأخطر على مستوى الشعور بأولويات الثورة وأهدافها، وإن شئنا دقة أكثر لقلنا إنه صراع مستورد إما من الماضى..!! وإما من حاضر لا علاقة له بحاضرنا!!، ومن ثم فخطورته على الوعى السياسى والعملية السياسية تأثر ضار وهادم للغاية، وسيعوق التفكير الجاد فى مشكلات الواقع الحقيقية والواقعية التى نعانيها جميعا.

وهى مشاكل تتجاوز مستوى من مثل مستويات صراع السلفى ضد الليبرالى واليسارى ضد الاسلامى.. إلى مستوى أخطر كثيرا كثيرا. إنه ببساطة، مستوى صراع جميع هذه الايديولوجيات والأفكار ضد الاستبداد والتسلط والفساد داخليا وخارجيا.. ضد ارتهان القرار الوطنى لغير صالح الوطن والشعب، ضد نهب خيرات الوطن وعرقلة المشروع الوطنى والحضارى، ولا يمكن مواجهة هذه التحديات الخطيرة جدا إلا عبر (كتلة تاريخية) تجمع كل الخبرات والكفاءات بمختلف انتماءاتها الأيديولوجية والسياسية لبلورة الأهداف الكبرى لثورتنا فى صورة مشروعات اجتماعية وسياسية واضحة تخدم مصالح مصر ثم مصر ثم مصر.

الدعوة إلى (الكتلة التاريخية) ليست حلا نهائيا لمسألة الصراع السياسى والفكرى، لكنه ترتيب لأولويات السير للأمام والتقدم الحقيقى، نحو المستقبل الذى ننشده وتحلم به الأجيال التى نتحمل مسئولية حاضرها، وهذا الترتيب يجب أن يكون على المستوى الشعبى أيضا، كما على مستوى النخب، والتى أثبتت بكل أسف أنها ليست على مستوى المسئولية التاريخية فى تحمل الأمانة فى شأن كشأن الثورة وفى مصلحة عليا كمصلحة الوطن.

وأنا اتصور أن التوتر والاضطراب الحادث الآن سيأخذنا جميعا فى طريق (الإرادة الوطنية العامة) إلى الأمام باتجاه بلورة أنساق (فكرية وسياسية) متقاربة تستجيب لمعايير الواقع فى المقام الأول، ذلك أن مصر فى حاجة حقيقية، كما ذكرت قبلا، إلى مشاريع فكرية وسياسية متنوعة تساهم فى إثراء العمل الوطنى العام، لأنه لا صلاحية تامة لأى مشروع فكرى أو سياسى، استنادا إلى أن كل المشاريع الإصلاحية ذات مفهوم وتطبيق بشرى فى النهاية، بما فيها المشروع الإصلاحى الإسلامى بكل تياراته، الذى لا يملك صفة تمثيلية للإسلام، وإذا كان طول الممارسة على نحو متداخل قد أدى إلى هذا المفهوم فيجب على أصحاب المشروع الإسلامى أن يؤكدوا ذلك تكرارا ومرارا للوعى الشعبى العام، نحن فى نهاية الأمر أمام مفهوم بشرى وتطبيق بشرى يستلهم الدين، صوابا كان أم خطأ هذا الاستلهام، فيما يكون الدين مشاعا للجميع، فهما واستلهاما وتطبيقا.

كثير من الباحثين يجدون صعوبة فى مقاربة (شرط الضرورة) المطلوب للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية بالمفهوم التام للديمقراطية، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، وذلك بسبب غياب الوعى العام أو تخلفه فى أحسن الأحوال وهو ما يتطلب إحساسا حادا ودقيقا بالواجب من كل النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية والسعى بكل قوة الآن وليس غدا لتشكيل ذلك التوافق الحرج الصعب وأعنى به (الكتلة التاريخية) من أجل تحقيق التحول التام نحو(الدولة الحلم) التى تليق بمصر وشعبها ومكانتها، دولة المؤسسة الراسخة، دولة القانون، دولة العدل، دولة الفكر، دولة الإنسان، دولة (الجمهورية) التى تحتضن جيشها جندا وقادة وسلاحا.

ثمة احتمالان الآن أراهما فى أفقنا السياسى الحاضر: احتمال أن نذهب إلى مصالحة تاريخية بين كل التيارات الفكرية والسياسة تتيح انتقالا تدريجيا وآمنا نحو (نظام سياسى) مكتمل الأركان، وعلى رأس هذه الأركان (الديمقراطية) والمدنية الكاملة للسياسة والسلطة، وهو النظام الذى نقبله جميعا ونعاونه ونتعاون معه جميعا، لأنه سيكون من اختيارنا ولأنه المستقبل كما يجب وينبغى أن يكون.

واحتمال نقيض آخر لا نتمناه أبدا، ويعنى ذهابنا إلى حالة مفتوحة من التوتر المتصاعد والاضطراب اليومى، الاحتمال الاول رصيده يتكون من السياسة والعقل والدين والمشاركة والتضحية من أجل المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الأجيال بل وحقها أيضا فى رؤية قادة ورموز تضحى فعليا وعمليا من أجل الصالح العام. الاحتمال الثانى رصيده يتكون من العناد والاستكبار والمغالبة والتطرف فى الرأى والاقصاء والاستئثار.

الاحتمال الأول يحتاج إلى تلك (الكتلة التاريخية) التى تضم، كما ذكرت، أكثر ما يمكن من التنوع السياسى والاجتماعى والفكرى. ثمة اتفاق حقيقى بين الفاعلين السياسيين على أن التحول والانتقال الديمقراطى يأخذ طريقه نحو الاستقرار والرسوخ من خلال الممارسة والفعل والتجربة والخطأ وتراكم الخبرة الشعبية والمؤسسية فى بناء الصرح الديمقراطى الذى إن صح وصلح ستنصلح به ومعه كل حياتنا فى هذا الوطن العزيز.. هو هدف استراتيجى بكل ما تعنيه الاستراتيجية من ترتيب للأهداف والأولويات، لكن واقع الحال حتى الآن يشير إلى نوع من عدم الوضوح مصحوب بنوع من الاهمال والتباطؤ، غير المفهوم، فى رؤية وسائل وأدوات تحقيق هذا الهدف.

ومن أجل الاتفاق على الإطار الأمثل لتحقيق ذلك، وبكل ما يطلبه منا الواجب الوطنى والتاريخى من صدق وتجرد، لابد من إدراك خطورة الهيمنة والرغبة المدمرة فى التفرد والاستئثار. الاستئثار لجهة واحدة أو حزب واحد أو تيار واحد، ليس الإدراك فقط هو المطلوب، بل العمل الدءوب والقوى على تنمية الوعى السياسى والفكرى بروح (الديمقراطية) وتحقيق تفاهم وتقارب بين كل الأطراف الفاعلة بإخلاص وصدق من أجل تحقيق حلم الثورة والأجيال التى تواكبها.

وفق هذا المعنى لابد من الاتفاق على صياغة رؤية للمستقبل، للنموذج الديمقراطى المرجو بما يمكن استلهامه من التجارب الأخرى للتحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، خاصة موجات التحول الثلاث التى شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية (الأولى منها منذ نهاية الحرب 1945، والثانية بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتى 1991، والثالثة مع بدايات الألفية الجديدة فى التحولات فى الفكر والسياسات فى الدول التى استوعبت قيمة الديمقراطية طريقا للتنمية الناجحة والإصلاح السياسى كما فى أمريكا الجنوبية واللاتينية واسبانيا والبرتغال واليونان)، كثير من الباحثين يشيرون إلى أن الموجة الرابعة بدأت بالفعل من مصر.

وأيضا ما يمكن استلهامه وما يمكن أن تضيفه النخب الفكرية والسياسية من خلال الحاضر بمكوناته وعلاقاته وتجاربه. وهذا كله يستحيل تحقيقه من دون حوار جدى ورصين تشارك فيه كل التيارات بتفهم وتجرد وانفتاح ونضج حضارى.

عملية (غرس) الديمقراطية (تأكيدا لخطوات الانتقال والتحول) فى حاجة ماسة إلى تطوير وانضاج الوعى الفكرى والسياسى للناس العاديين وهى المهمة التى يتطلب إنجازها ليس فقط الوعى المستمر بفكرة الديمقراطية لفائدة الحاضر والمستقبل بل والعمل على نسف وهدم الأسس التى قام عليها الاستبداد والطغيان وعلا واستعلى على الناس.

العبرة التاريخية فى كل هذا ليست فقط بتحقيق حلم الانتقال والتحول الديمقراطى فقط، ولكن أيضا توفير ضمانات استمراره وعدم التراجع عنه تحت أى ظرف كان، بل والعمل على (تحصين) الجماهير بأدوات المقاومة الرادعة لأى شكل من أشكال التراجع والعودة إلى مناخات الظلم والاستبداد والتفرد بالسلطة، إحدى الواجبات الأهم لـ(الكتلة التاريخية) هى نشر (ثقافة المشاركة) التى تقوم على استدعاء الناس العاديين للقيام بدورهم وواجبهم تجاه الحياة العامة والتأثير على العملية السياسية بل توجيهها أيضا.

إنها عملية شاقة ومتواصلة فبدون (المواطن) الصحيح الصالح، لن تكون هناك سياسة صحيحة ولا حكم رشيد ولا تنمية صحيحة، ينبغى السعى باستمرار وتواصل إلى تكوين تلك الحالة من(المواطنة الصحيحة الكاملة) وتنمية الوعى بفكرة الحق والواجب وترسيخ فكرة الانتماء إلى (الجماعة الوطنية) والمشاركة فى صونها وحمايتها، واعتبار ساحة العمل السياسى مفتوحة على الدوام على كل القوى والتيارات السياسية ذات التصورات المتباينة والأفكار المختلفة.. مضى زمن الإقصاء.. مضى زمن الإقصاء.

واليقين التام علميا وسياسيا بأن (التغيير) قانون راسخ فى كل واقع سياسى بل فى كل الحياة، الأمر الذى يفرض علينا جميعا اعتماد قدر كبير من المرونة فى التعامل مع الشأن السياسى وفق مفهوم (التغيير) وما يسفر عنه.

النشر الواسع لثقافة الحوار والجدل والخلاف والآداب الحاكمة لها، خاصة فى التعامل مع (مسألة الأفكار) انتصارا أو دفاعا، وهو ما يؤكد تأكيدا قاطعا على نبذ كل أساليب العنف والتطرف فى معاملة الآخر، ليس فقط نبذها، بل واحتقارها والاشمئزاز منها، وقد علمتنا تجارب الآخرين أن الحدة المفرطة والمبالغة فى الجدل السياسى والفكرى بين المواقف والأطراف المتعارضة تسىء إلى مادة الحوار نفسها وموضوعها، وتنقص منها ولا تزيدها إذا لم تعرف الأطراف المختلفة كيف ومتى تستمر وتتوقف.

لقد أصبحت على يقين من أن أقوم طريق لإتمام الانتقال الديمقراطى وتحقيق الحكم الرشيد هو تكوين تلك (الكتلة التاريخية)، التى يؤمل منها وبها أن تقوم بدور (الفاعل الإصلاحى الأكبر)، سياسيا وفكريا واجتماعيا، ولا شك أن للمثقفين دورا أساسيا فى بناء تلك الكتلة وفى صياغة أساسها الفكرى الممهد لتحالف مكونات اجتماعية وسياسية متعددة للوصول إلى أهدافنا التى قمنا من أجلها فى يناير2011.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved