الألمان يفوضون من جديد «مامى آنجى»

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 26 سبتمبر 2013 - 9:16 ص بتوقيت القاهرة

لم تمر ساعات قليلة على إعلان النتائج الأولية للانتخابات الألمانية إلا وكانت صور أنجيلا ميركل تتصدر الصفحات، وقد أسبغ عليها الصحفيون ألقابا وأوصافا مثل «موتى» المرادفة لكلمة «مامى» بالعامية، ومادونا الألمانية، الأول يعبر عن نقلة جديدة انتقلتها السيدة ميركل فى أعين الشعب الألمانى لتحتل مكانة لا تقل أهمية عن المكانة التى كانت يحتلها المستشار كونراد أدينادر، الذى حظى بلقب «بابا ألمانيا» بصفته الرجل الذى أعاد صياغة ألمانيا شعبا وعقيدة ونظاما. ها هى المستشارة أنجيلا ميركل تلقب تدليلا بمامى ألمانيا بصفتها المرأة التى قادت السفينة الألمانية متجاوزة أسوأ أزمة اقتصادية مر بها العالم منذ عام 1931. أما لقب مادونا الألمانية، فجاء مبالغة فى التعبير عن تقدير الشعب الألمانى بمنح السيدة ميركل صفة قداسة، وهو فى حد ذاته تطور له مغزى. إذ إنه حتى وإن بقى فى حيز الاهتمام الإعلامى وحماسة الرأى العام فقد رآه البعض نكسة لجهود خارقة بذلها الألمان خلال السبعين عاما الماضية ليتخلصوا من عقدة تأليه أو تفخيم القادة السياسيين، حتى يأتى يوم يعود فيه كثيرون لترديد صفة تحمل معنى التقديس للسيدة المستشارة.

شهدت الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية اجتهادات إعلامية وحزبية لعقد مقارنات بين السيدة ميركل التى كانت تستعد لدورة ثالثة فى الحكم وبين السيدة مرجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا فى الثمانينيات وبعض التسعينيات، وهى التى امتد حكمها لفترة ثالثة. وقد اشتد ساعد المجتهدين فى المقارنة فور إعلان النتائج صباح الاثنين، أى بعد أن صار مؤكدا تفوق ميركل من حيث إنها، ورغم مظاهر قوتها المتعددة وربما بفضل كفاءتها المتناهية، لم تقع فى أخطاء وقعت فيها تاتشر وتسببت فى استقطابات وتوترات سياسية داخلية وخارجية عديدة. كانت تاتشر من الزعماء الذين يحظون بالإعجاب الشديد والكراهية المقيتة فى آن واحد، ولا شك أنها استخدمت هذه الخاصية إلى حدود قصوى لتتحكم أكثر وتغير ما شاء لها أن تغير فى هياكل الاقتصاد والمجتمع فى بريطانيا. وبالفعل تركت تاتشر بريطانيا، وقد اختلفت عن بريطانيا التى تسلمتها قبل ثمانى سنوات. وأظن أنها أثرت كثيرا فى مسار العلاقة بين الغرب والمجتمعات الإسلامية ولا أستبعد أن يحملها المؤرخون فى زمن غير بعيد المسئولية عن سقوط آلاف الضحايا فى كلا الجانبين نتيجة لتشدد عداءها للمسلمين.

قارنوا أيضا بين أنجيلا ميركل وهلموت كول. اختاروا كول لأنه المستشار الذى درب أنجيلا سياسيا، وكان يناديها بالفتاة، وراح علماء النفس يبحثون فى جذور العلاقة بين كول وميركل، هذه الجذور التى ربما دفعت المستشار الأسبق للاهتمام بالفتاة القادمة للتو من ألمانيا الشرقية ومنحها الفرصة لتتعلم منه السياسة والقيادة. وهى أيضا الجذور التى ربما دفعت الفتاة أنجيلا إلى «اغتياله» سياسيا، بمعنى آخر «قتلت الابنة أباها» سياسيا بعد انتهاء دوره ورحيله عن الدنيا. لم يتأخر أطباء نفسيون، وجدوا فى علم النفس السياسى مصدرا جديدا للرزق لتفسير أسباب نجاحها وشخصيتها وغموضها، عن العودة بأنجيلا إلى نشأتها فى مجتمع شيوعى مغلق تعلمت فيه إخفاء أفكارها وآرائها الحقيقية والإعلان فقط عما تراه مناسبا ولا يأتى عليها بالضرر.

ليلة الاثنين، قضتها أوروبا فى الانتظار. كانت عودة ميركل لولاية ثالثة تعنى الكثير.. بل الكثير جدا لشعوب دول أوروبية أنهكتها الأزمة الاقتصادية والمالية. أتصور أن عواصم مثل أثينا ومدريد ولشبونة وروما ودبلن قضت الساعات الطوال تنتظر نتائج الانتخابات الألمانية. إذ لا يخفى أن تجربة السنوات الأخيرة كانت ثقيلة ليس فقط على العلاقات بين الشعوب الأوروبية والشعب الألمانى ولكن أيضا على كثير من حكام القارة وأغلبهم لم يقض فى منصبه سوى فترة قصيرة لا تقارن بالفترة الطويلة التى قضتها ميركل فى الحكم.

عاشت ألمانيا فى عهد ميركل آمنة ومستقرة وهادئة وبدون تقلبات اجتماعية أو اقتصادية وحققت نسبة مثالية من العمالة واحتل اقتصادها مكانة رابع اقتصاد فى العالم، بينما كانت معظم اقتصادات أوروبا وبخاصة اقتصادات دول الجنوب غير مستقرة ومضطربة وشديدة التقلب اجتماعيا وبنسب بطالة غير مسبوقة. لا أحد من حكام أوروبا يستطيع أن ينكر فضل ألمانيا على إنقاذ اقتصادات عديدة باستخدام عصا التقشف وجزرة الدعم النقدى، ولا أحد فى ألمانيا أو خارجها يستطيع أن ينكر فضل أنجيلا ميركل شخصيا على انتهاج هذه السياسة وتنفيذها، ومع ذلك ظل اقتصاديون كبار فى أوروبا وخارجها على موقفهم المناهض لسياسات التقشف وهؤلاء يحملونها مسئولية التأخير فى حل الأزمة العالمية.

ليس خافيا على دوائر الاتحاد الأوروبى فى بروكسل وغيرها من العواصم أن ميركل خلال ولايتها الثالثة التى بدأت هذا الأسبوع سوف تصر على انتهاج أسلوب التفاوض ثنائيا مع الدول الأوروبية المحتاجة للدعم. ليس خافيا أنها سترفض قطعيا أن تجرى هذه المفاوضات فى إطار جماعى، أى فى إطار بروكسل. هذا التوجه لاشك يسعد اللورد كارادون، رئيس وزراء بريطانيا، الذى ينوى الانسحاب من الاتحاد الأوروبى إذا لم تسترد بريطانيا الكثير من حقوق السيادة التى سلمتها طواعية لبروكسل عندما وافقت على الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة. لا شك أيضا أن واشنطن لن تكون سعيدة بهذا التوجه من جانب برلين، وهذا الانسحاب من جانب بريطانيا، لأنها تمنت، ومازالت تتمنى، على ألمانيا أن تقوم بدور طال انتظاره لتحل محل بريطانيا الحليف المنهك، ومحل فرنسا الحليف غير المضمون أو «غير المؤتمن».

كانت ميركل جريئة وواضحة خلال الحملة الانتخابية عندما أكدت أن ألمانيا لن تغير فى صلب السياسة الخارجية الألمانية. لن تتدخل عسكريا فى الخارج لأن الشعب يرفض بشدة أى نشاط عسكرى تمارسه ألمانيا خارج حدودها، لكنها قد تتوسع فى تصدير السلاح وبخاصة فى الشرق الأوسط، إذا طلب منها ذلك. كذلك لن تشترك فى سياسات هوجاء تعيد التوتر بين روسيا والغرب فى شرق أوروبا أو فى الشرق الأوسط.

لوحظ خلال الحملة الانتخابية أن معظم الأحزاب، ومنها الديمقراطية المسيحية الذى تتزعمه السيدة ميركل، تجاهلت القضايا الأخطر التى تمثل تهديدا كبيرا لمستقبل ألمانيا. تجاهلت الأزمة الديموغرافية التى توشك أن تمسك بخناق المجتمع الألمانى حيث أصبح الشباب أقلية فى مجتمع لا ينجب ولا يجدد نفسه. تجاهلت أيضا التصعيد المتتالى للأعمال العنصرية ضد الأجانب، وهو التصعيد المتزامن مع زيادة فى شعبية «حزب البدائل»، وهو الحزب الذى حصل على عدد غير متوقع من الأصوات، مركزا على الدعوة لإخراج دول جنوب أوروبا من الاتحاد الأوروبى، والتركيز على خدمة مصالح ألمانيا، مجددا وبقوة فكرة «ألمانيا أولا».

مفيد لنا فى مصر أن نراقب انتخابات ديمقراطية فى دولة عريقة وإن كانت حديثة العهد نسبيا بالديمقراطية. سمعت من يصفها بأنها كانت حملة انتخابية مملة إذا قورنت بحملات انتخابية أمريكية أو فرنسية. ينسون أن هذه هى طباع شعب لا يبحث عن الإثارة، ويرفض بإصرار أن يحيد بعيدا عن السياق الذى وضعه فيه الحلفاء منذ أن قرروا منهاجا لحياة الألمان ووضعوا لهم مدونة سلوك سياسى ونظاما انتخابيا ليحترموه ويلتزموه.

تعمد الحلفاء وضع القواعد الدستورية التى تضمن بعثرة مراكز السلطة السياسية فى ألمانيا، وقللوا من أهمية برلين كعاصمة لألمانيا حتى عندما كانت ألمانيا تقتصر على القطاع الغربى من ألمانيا التقليدية. وقد فعلوا شيئا قريبا من هذا فى اليابان عندما انقضوا بالتدمير على مكانة الإمبراطور فى الثقافة السياسية اليابانية وعلى كل القيم والرموز القديمة النابعة من وجوده. وفى ألمانيا وضعوا نظاما انتخابيا يضمن إلى حد كبير أن تكون حكومات البلاد ائتلافية حتى لا ينفرد حزب واحد بالسلطة فيستخدمها ليدعم من خلالها قوته وسطوته، وأقاموا نظاما حزبيا يضمن، أيضا إلى حد كبير، وجود درجة مناسبة من التوافق بين الغالبية العظمى من الأحزاب، بحيث تبقى الاختلافات بينها شكلية بعيدة عن الأيديولوجية.

وفى النهاية أدخل الحلفاء ألمانيا فى «أوروبا الموحدة» ليسكنا إلى بعضهما البعض وتهدأ مشاعر الغضب والانتقام إن وجدت أو نشأت. وها هى أوروبا بالفعل هادئة لا تريد لألمانيا الضرر، وها هى ألمانيا المتوافقة سياسيا وحزبيا أشد حرصا على أن يستمر هذا الهدوء، وها هى ألمانيا المتصالحة مع نفسها وماضيها تجدد الثقة فى قيادة حكيمة، قيادة «مامى آنجى».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved